ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر – والحيرة مسئولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم – رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [الأحقاف: 26]. ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا) (?).

ولهذا من أدركته رحمة الله تعالى منهم خرج عن ذلك ورجع إلى طريقة السلف وأوصى بذلك:

روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أحمد بن سنان أنه قال: (كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) (?) قال أبو بكر بن الأشعث: (كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي) (?). وقد سئل الإمام أحمد عنه وما أظهر: فكلح وجهه ثم قال: (إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب) (?).

وقال أبو المعالي الجويني: (لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني) (?) وكان يقول لأصحابه: (يا أصحابنا لا تنشغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ في ما بلغ ما تشاغلت به) (?).

النتيجة الثامنة عشرة: أهل السنة أعمق علما وأسد عقلا:

لما كان أهل السنة ملتزمين المنهج الصحيح كان كلامهم في مسائل الكون صحيحا متفقا، لا يتكلمون فيها إلا بعلم (عقلي أو سمعي)، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) سورة محمد وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68] (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015