قال: فأخبره الأعرابي بالخبر، فقال له يعقوب - عليه السلام - أرأَيْتَهُ؟ قال: لا، ولكنّه ناجاني، فبكى يعقوب، فقال له: يا اخا العرب: هل لك من حاجة؟ قال: بل هو يحيِّيك بالسلام وأمّا أنا فليس لي في الدنيا من حاجة فإنّ ذلك الغريب أغناني، فدعا له يعقوب عليه السلام وقال هَوَّنَ اللهُ عليك سكرات الموت.
قال أبو الفرج الهمداني: دخلتُ جامع البصرة فرأيتُ شاباً يكتب شيئاً، فقلت أيّ شيء تكتب؟ فقال لي: أسماء المحبينْ فقلت له: بالله عليك اكتبني فيهمْ قال: لاْ فوقع عليّ من البكاء ما لم أطقهْ فقال لي: يا شيخ ما يُبكيك: فقلت له: ألاّ ما كتبتني في المحبين أو في يحبّ المحبينْ فلمّا جَنّ الليلُ إذا أنا بهاتفِ يهتف بي ويقول لي: يا أبا الفرج قد غفر اللَهُ لكَ ذنوبك بقولك: اكتبني فيمن يحبُ المحبين.
بالله بألله ... يا راكب الشملهْ
أُمْنُن عليَّ وقفةً ... بجنب تلك الأثلَهْ
فاندب بها تسليمة ... بين بيوت رمله
وإنْ رأيتاَ هاتفاً ... يهتف بي فَقُلْ لَهْ
جُنّ بكم فما الذي ... به اختلستم عَقْله
قال بعض المشائخ - رضي الله عنه - المحبّة إذا غلبت صاحبها يرى الأشياءَ كُلَها صورة محبوبه، كما قال الجنيد: لا تصحّ المحبة من اثنين حتى يقول أحدهما للآخر يا أناْ في المعنى شعر:
أيها السائل عن قصتنا ... إن ترانا لم تفرق بيننا
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... فإذا أبصرتني أبصرتنا
حُكي أنه لمّا تمكّن حبُ يوسف من زليخا نسيت كلّ شيء سواهُ، وكانت تسمّي كلَ شيء باسمه، فإذا رفعت رأسها إلى السماء ترى اسمه مكتوباً، فتاهت في حُبِّه حتى أن يوسف لمّا سُجنَ اتخذت قصراَ بإزاء السجن، وكانت لا تنام الليل، فقيل لَها في ذلك فقالت: إن أردتموني فقلبي مسجونٌ عند مسجوني.
قلبي يراك على بُعْدِ من الدار ... وأنت بالقرب من قلبي وتذكاري
إن غاب شخصُك عن عيني فلم أَرَهُ ... فإنّ حُبّك معقودٌ بإضماري
وانْ تكلمتُ لم ألفظ بغيركم ... وإن سكنتُ فأنتم عقد أسراري
إخواني! هذه الطائفة أبدانهم في عذاب الدنيا، وقلوبهم مع المعذّب، هيهات أجساد القلوب عندكم، وأرواحها عندنا.
إنّ في الأسر لَصَبّاً ... دمعُهُ في الخَدِّ صَبُّ
هو بالروم مقيمٌ ... وله بالشام قلبُ
حُكىَ أن إبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - حجَّ إلى مكة فبينما هو في الطواف فإذا بشاب حسن الوجه قد قطع على الناس طوافهم من حسنه وجماله وبهت الناس ينظرون، فصار إبراهيم ينظر إليه ويبكي فقال بعض أصحابه: إنا لله وإنّا إليه راجعون غفلة دخلت على الشيخ بلا شك فقلت له: يا سيدي ما هذا النظرُ الذي يخالطه البكاء؟ فقال الشيخ: اعلم يا أخي أنّي لولا ما، عقدتُ مع الله عقداَ لا أقدر أفسخه كنت أدني لهذا الغلام منّي واسلِّم عليه واضمّه ألتزمهُ، ولكنّي خشيت أن يقطع بي عن من عقدت العقد بيني وبينه، اعلم أنّ هذا ولدي وقرّة عيني تركته صغيراً وفررت إلى الله، هو كما ترى مُذْ كَبر وهؤلاء عبيده وإني لأستحي من الله أن أعود لشيءٍ خرجتُ منه.
وما عرضت لي نظرة مُذْ عرفته ... ولا شيء إلاّ كان لي حيث أنظر
اغارُ على طرفي له فكأنني ... إذا رام طرفي غيره لستُ أبْصِرُ
فيا منتهى سؤلي وذخري وعُدَتي ... ودارك في قلبي إلى يوم أُحْشَرُ
ثم قال امض وسلَّم عليه لعلِّي أتسَلّى بسلامك عليه وأبرِّدُ به ناراً على كبدي قال: فأتيت الفتى وسَلَمْتُ عليه وقلت له: بارك الله لأبيك فيك فقال: يا عم! وأين أبي؟ إنّ أبي خرج فارّاً إلى الله تعالى، ليتني لو رأيتُه مرة واحدة وتخرج نفسي عند ذلك، هيهات تُرى يجمع الله شملي به، قال: وغَلَبَتْهُ العبرة فردّها بيده وقال: والله لقد أودُّ لو أنّي رأيتُه ودَعْني أموت مكاني.
لقد حكم الزمانُ عليّ حتى ... أراني في هواك كما تراني
حبيبي إن بَعُدت فإنّ قلبي ... على مَرِّ الزمان إليك وأني
وإنْ بَعُدَتْ ديارُك عن دياري ... فشخصك ليس يبرح عن عياني