فيا وَلَعَ العواذل كفّ عنِّي ... ويا كفَ الغرام خذي عناني
لقد أمكنتَ حبّك من فؤادي ... مكاناَ ليس يعرفه جَناني
كأنَّك قد ختمتَ على ضميري ... فغيرك لا يمرّ على لساني
قال: فأتيت إبراهيم بن أدهم وهو ساجد في المقام وقد بلَّ الحصا بدموعه، وهو يتضرّع إلى الله ويقول:
هجرت الخَلْقَ طرّاً في هواكاد ... وأسلمتُ العبادَ لكي أراكا
فلو قطعتني في الحبّ إرباً ... لما سكنَ الفؤاد إلى سواكا
فقلتُ له: ادعُ له، فقال: حَجَبَهُ الله عن معاصيه.
إخواني! نفوسنُُ هذه الطائفة قد ذابت بالمحبة إليه، وقلوبهم طارت بالشوق إليه، قلوبٌ صفت من الأدناس فصفّاها مع الأنفاس، قلوبٌ، لا يطفى حريقُها، ولا يسكن شهيقُها، إذا لاح للباشق صيدٌ نَسِيَ مألوف الكفَ، من كان واثقاَ بالسلامة فرح بفَكَ باب السجن.
دَعْها فَسأئقُ رَكْبِها الأشواقُ ... ذُكِرَ الخليط فَمُدَت الأعناقُ
شَقَتْ نسيمَ خُزام نجدٍ فاغتذتْ ... لايُرتجى لأسيرها إطلاقُ
لا الشامُ شامٌ حين تُذكرنجدُها ... آهاً لذاك، ولا العراق عراقُ
باحتْ حشاشة نفسها بوصالهم ... فالوصل منها للضرام نفاقُ
لم تستمع ذِكْرَ الحمى إلا انثنت ... فكأنما غَنّى لها إسحاقُ
لمّا تكامَل بناءُ بيت الله تعالى وهي الكعبة الحرام أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن أذّن في الناس بالحج فقال: كيف يا ربّ يسمع صوتي جميع الخلائق؟ فقال يا إبراهيم منك النداء وعليَ البلاغ، فَعَلا إبراهيم على جبل " أبي قبيس " ونادى من كُلّ الوجوه إن ربكم بنى لكم بيناً فحجّوه، فأجابه من جَرى القدرُ بحجِّه: لبّيكَ اللهم لَبَّيْكَ، وكان ذلك اليوم أخاً ليوم (ألست بربكم) .
لما رأيتُ مناديهم أَلمَّ بهم ... شَدَدْتُ مئزر إحرامي ولَبَّيْتُ
وقلتُ يا نفس جدّي الآن واجتهدي ... وساعديني فهذا ما تمنيتُ
لو جئتكم زائراً أسعى على قدمي ... لم أقض حقاً وأيُ الحق أَدَّيْتُ
ثم أَعْلَمَ الجليلُ الخليلَ أن نداءك واقع في محلِّ النُجع، فقال: (يأتوك رجالاً) وهم الرجّالة، وقد حجَّ إبراهيمُ وإسماعيل ماشيين، وحجَ الحسن بن علي رضي الله عنهما خمساً وعشرين حجة ماشياً والنجائب تُقاد معهْ وحجَّ الإمام أحمد بن حنبل ماشيا مرتين (وعلى كل ضامرٍ) قد ضَمَّرها طول السفر صاروا صابرين على مشاق الطريق بين صعود ونزول ومضيق، (وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلِّ فجّ عميق) .
فارق القومُ ديارهم وتركوا مرادهم وجعلوا ذكره زادهم باينوا الخلائق، وتجردوا عن العلائق، تركوا المحيط، وأقبلوا على الملك المحيط، وإنّما أمروا بالتجريد ليدخلوا زيَ الفقراء فَبُيِّنَ اَثرُ، (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) .
إخواني! الحجُ حرفان حماء وجيم، فالحاء حلم المعبود، والجيم جرم العبيدْ تالله لقد جمعوا الخير الجمّ ليلة جمع، ونالوا المُنى إذ دخلوا في منى.
نال المنى من حَلَ في وادي مِنى ... غيري فإني ما بلغتُ مُرادي
وبكيتُ من ألم الفراق وشقوتي ... فبكى الحجيج بأسره والوادي
رفعوا بأيديهم وضخوا بالبكا ... وضَمَمْتُ من حُزني يدي لفؤادي
لمّا حجّ جعفر الصادق - رضي الله عنه - أراد أن يُلَبّي فتغيّر وجهُه، فقيل له: مالك؟ فقال: أريد ان ألبَي وأخاف أن أسمعَ غير الجواب.
وقف مُطْرِفٌ وبكرٌ بعرفَةَْ فقال: مطرِفٌ اللهمّ لا تردّهم من أجلي.
وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أنّي فيهم.
وقَفَ الفضيل بن عياض فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمسُ أنْ تغرُبَ قال: واسوأتاه منك وإن غفرت.
وقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء، فقيل له لم لا تدعو؟ فقال ثَمَّ وحشة، قيل: هذا يوم العفو عن المذنبين، فَبَسَط يده فوقع ميتاً مكانه.
انزل الوادي بايمنِه ... فهو بالأحزان ملآنُ
وارم بالطرف العقيقَ فلي ... ثمّ إطراب وأشجان