مجازاته في ذا المثال كرامة ... ولست لشيءٍ بعد بالمستعرض
وهل يعلم مضاددة في الأفعال أقبح أو أشنع من إن يصل المرء من سبه وشتمه، ويقتل من ثنى عليه ومدحه. وقد ذكر أبو تمام رحمه الله أمر عبيد في شعره فقال:
من بعد ما ظنوا بان سيكون لي ... يوم ببغيهم كيوم عبيد
وقد أعتذر للنعمان وأحتج عنه في ذلك بان قيل: إنما كان يفعل هذا إظهاراً لقدرته وليملأ به صدور الناس رعباً فيهابونه. وليس هذا بعذر ولا حجة ولا يدل على عز ولا قدرة لانا نعلم إن السوقة لا الملوك إذا كان جالساً بفناء بيته بين أهله وأعوانه ورهطه وأتاه رجل مسترسل مستسلم غير خائف ولا حذر فألقى ألي بيده وأراد قتله أمكنه ذلك إذ لا قدرة له على الدفاع عن نفسه. وقد كانت العرب تتكرم عن قتل الأسير إذا يرد في أيديهم ويعدون في ذلك من دنيء الأفعال، وإن كان حكم في غير هذا الحكم الآن الأسير قبل أسره قد قصد بالمكروه فحارب وطاعن وضارب وربما كان إنما جاء غازياً أو قد أصاب قبل أسره دما وحال الزائر الوافد الراجي المؤمل بالضد من جميع ذلك، ثم إن للملوك فضلا على غيرهم من الناس في رصانة عقولهم، ورجاحة أحلامهم، ومراعاة سياساتهم، وعلمهم بإيراد الأمور مواردها ووضع الأفعال مواضعها وهم أيضاً بالصفح عمن أستوجب الانتقام أولى منهم بالفتك ممن أستحق الحباء والإكرام، فما دل النعمان بذلك من نفسه الإلية على نقص وجهل وسفاهة حلم، وقلة علم بسياسة الملك وعكس مضاددة، بين الأفعال ومجازاة المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان.