واختلفوا في سبب بنائه عند ابتداء الخلق على قولين: أحدهما: ما رواه محمد بن علي عن أبيه - رضوان الله عليهما - أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً على أربع أساطين، وسماه الضراح، وهو البيت المعمور، وقال تعالى للملائكة - عليهم السلام - طوفوا به، ثم بعث ملائكته - عليهم السلام - فقال: ابنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به.
والثاني: ما روي عن ابن عباس - رضوان الله عليهما - قال: لما أهبط - آدم عليه السلام - من الجنة إلى الأرض قال له تعالى: "يا آدم اذهب، فابن لي بيتاً، فطف به، واذكرني حوله، كما رأيت الملائكة يصنعون حول عرشي، فأقبل آدم - عليه السلام - يتخطى، فطويت له الأرض، وقبضت له المفاوز، فلم يقع قدمه على شيء إلا صار عمراناً، حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل - عليه السلام - ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة ثلاثون رجلاً، وأنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور زيتا، وطورسينا، والجودي، وحرى، فكان آدم عليه السلام أول من أسس البيت، وصلى فيه، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله تعالى الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله - عز وجل - إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فوضعا قواعد البيت وأعلامه، ثم بنته قريش بعد ذلك، وهو على حد البيت المعمور، لو سقط ما سقط إلا عليه.
ثم روى علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه -: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم عليه السلام بعمارة البيت، خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل، وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به، يغدو إبراهيم معها إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم: ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل عليهما السلام، حتى إلى موضع الركن، فقال لابنه: يا بني أبغني حجراً أجعله عليها علماً للناس، فجاء بحجر فلم يرضه، فقال: أبغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن، فوضعه موضعه، فقال: يا أبة من جاءك بهذا الحجر؟ قال: من لم يكلني إليك يا بني، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة، فيها رأس، فنادت: أن ارفعا على تربيعي.
قال القاضي المارودي - رحمه الله -: فهذا ما جاءت به الآثار في البيت قبل الطوفان وبعده.
وقال ابن إسحاق - رحمه الله -: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وكان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز "دويكاً" - مولى لبني مليح بن عمرو، من خزاعة - فقطعت قريش يده، وقيل: إن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر رمى سفينة إلى جدة لتاجر من الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار قبطي، فتهيأ لهم بعض ما يصلحها, وكان حية تخرج من بئر الكعبة، فتتشرق على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، فبعث الله تعالى إليها طائراً، فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا [ل] نرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحد من الناس. وقد نحل هذا الكلام إلى الوليد بن المغيرة، والأول أثبت، وأبو وهب خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً، وله يقول شاعر من العرب:
[و] لو بأبي وهب أنخت مطيتي ... غدت من نداه رحلها غير خائب
بأبيض من فرعي لوي بن غالب ... إذا حصلت أنسابها في الذوائب
أبي لأخذ الضيم يرتاح للندى ... توسط جداه فروع الأطايب