قال أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني - غفر الله له، ولجميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله وإن تنقلت بنا الدنيا تنقل الظلال، وتقلب بنا الدهر من حال إلى حال، وعفت رسوم آثارنا، واستولت يد الاعتداء على ديارنا، وتصدع شملنا أيدي سبا، وتشعبت بنا سبل المذاهب، وأخنت الحوادث على معشري وآلي، وأفنى الموت أسودي وأشبالي، كل ذلك بقدر جرى به القلم في القدم، وقضاء سبقت به المشيئة قبل الخروج إلى الوجود من العدم، ألقى ما سر من ذلك وساء بالتسليم والرضا، وافوض إليه جل وعلا فيما قدر وقضى، واقر بأن ابتلاءه بعدله، ومعافاته بفضله، وأرجو من رحمته أن يكون ذلك كفارة لذنوب سلفت، وموعظة دعت عن المعاصي وصرفت، وأن ما نالنا من الدنيا وآفاتها، بذنوب اقترفناها فرحمنا بتعجيل مكافاتها، وصلى الله على رسوله الأمين، محمد خاتم النبيين، الذي وصفه في كتابه الكريم، فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه البررة المتقين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وبعد: - جعلك الله بنجوة من النوائب، وأصفى لك الحياة من كدر الشوائب، ولا راعك بحادثة تنسى ما قبلها، وتصغر ما بعدها، وتفتح من النكبات أبواباً لا تستطيع سدها - فإني دعاني إلى جمع هذا الكتاب، ما نال بلادي وأوطاني من الخراب؛ فإن الزمان جر عليها ذيله، وصرف إلى تعفيتها حوله حيله، فأصبحت "كأن لم تعن بالأمس" موحشة العرصات بعد الأنس، قد دثر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرات بها حسرات وهموماً، ولقد وقفت عليها بعدما أصابها من الزلازل ما أصابها، وهي "أول أرض مس جلدي ترابها"، فما عرفت داري، ولا دور والدي وإخوتي، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي، فبهت متحيراً مستعيداً بالله من عظيم بلائه، وانتزاع ما خوله من نعمائه.
ثم انصرفت فلا أبثك حيبتي ... رعش القيام أمس ميس الأصور
وقد عظمت الرزية حتى غاضت بوادر الدموع، وتتابعت الزفرات حتى أقامت حنايا الضلوع، وما اقتصرت حوادث الزمان على خراب الديار دون هلاك السكان، بل كان هلاكهم أجمع، كارتداد الطرف أو أسرع، ثم استمرت النكبات تترى، من ذلك الحين وهلم جرا، فاسترحت إلى جمع هذا الكتاب، وجعلته بكاء للديار والأحباب، وذلك لا يفيد ولا يجدي، ولكنه مبلغ جهدي، وإلى الله عز وجل أشكو ما لقيت من زماني وانفرادي من أهلي وإخواني، واغترابي عن بلادي وأوطاني:
لو كانت الأحلام ناجتني بما ... ألقاه يقظان لأصماني الردى
وإليه - عز وجل - أرغب في أن يمن علي وعليهم بغفرانه، ويعوضنا برحمته في دار رضوانه، إنه لا يرد دعاء من دعاه، ولا يخيب رجاء من رجاه.
وقد جعلت هذا الكتاب فصولاً؛ فافتتحت كل فصل بما يوافق حالي، ثم أفضت فيما يوافق ذا القلب الخالي، ليلا يأتي الكتاب وهو كله عويل ونياحة، ليس فيه لسوى ذي البث راحة، على أن رزايا الدنيا كالأجل؛ تمهل ولا تمهل، فإن تولت اليوم فغداً تقبل:
فما أحد من ريبهن سليم
وتتبع هذا المعنى صعب وحصره لا يمكن، وقد أوردت منه ما يبرد اللوعة، ويسكن الروعة، والعذر إلى من وقف عليه مبذول، وهو عند الكرام مقبول.
فصول الكتاب 1- فصل في ذكر المنازل 2- فصل في ذكر الديار 3- فصل في ذكر المغاني 4- فصل في ذكر الأطلال 5- فصل في ذكر الربع 6- فصل في ذكر الدمن 7- فصل في ذكر الرسم 8- فصل في ذكر الآثار 9- فصل في ذكر المساكن والمحل والمعاهد والأعلام والمعالم والعرصات 10- فصل في ذكر الأرض 11- فصل في ذكر الأوطان 12- فصل في ذكر المدن 13- فصل في ذكر البلاد 14- فصل في ذكر الدار 15- فصل في ذكر البيت 16- فصل في ذكر بكاء الأهل والإخوان
1- فصل في ذكر المنازل
عن ابن أبي مريم قال: مررت بسويقة عبد الوهاب وقد خربت، وعلى حائط. منها مكتوب:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش وعز ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور، فلا عين ولا أثر
وقال الأسود بن يعفر: