متأوهون كأن جمر غضى ... للخوف بين ضلوعهم يسري
لم تلقهم إلا كأنهم ... صدروا لخوفهم عن الحشر
كم من أخ لك قد فجعت به ... قوام ليلته إلى الفجر
صوام وقدة كل هاجرة ... تراك لذته على قدر
تراك ما تهوى النفوس إذا ... رغب النفوس دعت إلى النزر
خواض غمرة كل متلفة ... في الله تحت العثير الكدر
في فتية صبر رزئتهم ... كانوا يدي، وهم أولو نصري
(القصيدة طويلة: اقتصرت منها على ما أثبته) .
روى أن رجلين قدما الموسم أيام الحج، فسألا رجلاً يعرف بابن أبي دباكل أن يقفهما على قبر ابن سريج، فلما وقفا حسر أحدهما عمامته فإذ هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، فنزل فعقر ناقته، وأنشد عند قبر ابن سريج:
وقفنا على قبر بدسم فهاجنا ... وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب
فجالت بأرجاء الجفون سوافح ... من الدمع تستتلي الذي يتعقب
إذا أبطأت عن ساحة الخد ساقها ... دم بعد دمع إثره يتصبب
فإن تسعدا نندب عهداً بعبرة ... وقل له منا البكا والتنحب
ثم نزل صاحبه، فعقر ناقته، فقال له القرشي: خذ في صوت أبي يحيى، فاندفع يغني:
أسعداني بعبرة أسراب ... من دموع كثيرة التسكاب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... موزعاً مولعاً بأهل الحصاب
أهل بيت تتابعوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عتاب
فارقوني، وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتة من إياب
كم بذاك الحجون من حي صدق ... وكهول أعفة، وشباب
فلي الويل بعدهم، وعليهم ... صرت فرداً وملني أصحابي
قال: ثم وهبا لي عشرين ديناراً، وسارا، فعدت إلى الناقتين فبعتهما ورحليهما بثلاثين ديناراً.
وقال الفرزدق يرثي بنيه:
إذا ذكرت عيني الذين هم لها ... قذى هيج منها للبكاء انسكابها
بنى الأرض قد كانوا بنى فعزني ... عليهم لآجال المنايا كتابها
ولولا الذي للأرض ما ذهبت بهم ... ولما يفلل بالسيوف جذابها
إذا ذكرت أسماؤهم، أودعوا بها ... تكاد حيازيمي تفرى صلابها
وقال شتيم بن خويلد، يرثي بني خالدة:
لا يبعد الله رب العباد وال ... ملح ما ولدت خالدة
هم المطعمون سديف العشا ... ر واللحم في الليلة الباردة
وهم يكسرون صدور الرما ... ح في الخيل تطرد أو طارده
يذكرني حسن آلائهم ... تأوه معولة فاقدة
فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالدة
وإن التي بقيت بعدهم ... على إثر موردهم وارده
بنو خالدة الذين رثاهم شتيم بن خويلد خمسة، منهم: كردم، وهو الذي طعن دريد بن الصمة يوم قتل أخوه عبد الله، الذي يقول فيه دريد:
تنادوا، فقالا: أردت الخيل فارساً ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردى؟
فوقع دريد بين القتلى، فأقبل رجل من بني عبس، فرآه، فقال: إني لأظنه حياً، فأهوى له ليطعنه، فقال كردم بالسيف دونه، وقال: لا يدن من قتيلي أحد، ثم إن دريداً تحامل في الليل، ومضى إلى قومه، وبرأ، وحج كردم بعد زمان في أصحاب له، فلم يشعروا حتى هجموا على بيت دريد بن الصمة، فأقبل دريد، حتى انتهى إليهم، فسلم عليهم، ورحب بهم، وقال من القوم؟ وهو لا يعرفهم فغالطوه عن نسبهم، وكان دريد عالماً بالنسب، فلم يزل حتى عرفهم، فلما رأى ذلك كردم كشف عن وجهه، فعرفه دريد، فسلم عليه، وحياه، وقال: مرحباً بكم وبمن معكم، وأمر بقبة، فضربت على كردم، وبعث إليه بحلة وجزور، فقال كردم: أما الجزور فقد قبلتها، وأما الحلة فتكون عندك حتى أرجع إليك، فأقام ما أقام، ثم ارتحل، فكان آخر العهد به.
ورأيت هذه الأبيات بخط الوزير الكامل أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي، منسوبة إلى الحارث بن عمرو الفزاري، يرثي بني خالدة، كردم واخوته، وهم بنو سعد بن حرام، والبيت السادس من الأبيات ما أورده الوزير.
وقال آخر:
أميم، هيهات الصبي، ذهب الصبي ... وأطار عني الحلم جهل غرابي
أبكي الألى بالأمس كانوا جيرة ... أمسوا دفين جنادل وتراب
ماتوا، ولو أني قدرت بحيلة ... لأحدت صرف الموت عن أحبابي