أوجب علينا حسن الأدب التفرق عنه. فما مرت أيام حتى نظمنا ذلك المجلس وضمنا مثل ذلك الأنس، فقال له بعض أصحابنا، وأظنه أبا الخير اليهودي: إن أذنت لنا في تمام الذي من تلك الجهة العذبة؟ فأنا صدرنا عنها وبنا برح، ومن وهب الله له ما وهب لك خليق بالجود على المستحق، ومن عرفه الله ما عرفك حرى بالتلطف في المسألة، وأنت بحر الله في الخلق تقذف بالجواهر، وشجرة العقل في العالم تخرج ضروب الثمر في كل حين وإبان، فلا زلت مكنوفاً بالمعرفة، مؤيداً بالنصرة، جواداً بالعطية، بداء بالرفد، محبباً إلى القلوب حالياً بالعيون، ممدحاً بالألسنة، وصحوباً بالتوفيق، مذكوراً بالثناء الفائق متنافساً عليه بالطارف والتالد.
فقال: لولا أني أعلم أن عشق الحكمة حرككم بهذه الكلمات الغر وهذه الفقر التي توفي حسناً على الدر، لأثنيت عليكم، ورددت أنفاسكم إليكم، شفقة على مروءتكم من عادة المتملقين، وصيانة لأعراضكم عن دنس المماذقين، فجولوا الآن فيما أحببتم فما يبخل بالحق على أهل إلاشقي، ولا ينفس بالصواب على طالبه إلا دني ردي.
فقيل له: فما العقل؟ فقال: العقل خليفة العلة الأولى عندك، يناجيك عنه ويناغيك به، ويبلغ إليك منه ويدلك على قصده والسكون في حرمه، ويدعوك إلى مواصلته والتوحيد به، والإهتزاز إليه، والإعتزاز به. وهذا كله نصح لا غش فيه، ورفق لا عنف معه، وبيان لم يخلط به تلجج، ويقين لا يطيف به تخلج.
قيل له: فقد قيل إن العقل مأخوذ من العقال.
فقال: هذا كلام خلف، ومعناه دنس، ودعوى متهافتة، إنما يدل الإشتقاق من الكلمة على جهة واحدة، والمطلوب المتنازع، لأنه مأخوذ من تركيب الحروف وتأليف اللفظ وصورة المسموع. أترانا إذا نطقنا بلغة أخرى، بالرومية أو الهندية، بمعنى العقل لكنا نريد به معنى العقال؟ لا والله! بل هذا المعنى موجود