أما ترى الثّلْجَ قد خاطت أنامِلُهُ ... ثوباً يُزَرُّ على الدنيا بأزرارِ
نارٌ ولكنها ليست بمُبْديةٍ ... نُوراً وماء ولكن ليسَ بالجاري
فيصبح الناس وصباحهم أبيض، وجناحهم لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومِض، والنيران مقرورة، وشياه الجليد مطرورة، والوجوه في عبوس، والوجود في بؤس، قد جمدت الأبدان حتى كأنها بلا نفوس، فأقمنا نكابد من ذلك الحال في تلك الأيّام عيشاً مريراً، واستمرينا أيّاماً عديدة نشابه أهل الجنّة بلا تشبيه في أنّا لا نرى فيها شمساً ولكن زمهريراً، ونشرب المياه من كأس كان مزاجها بالثلج كافورا، ونتخذ النار من البرد جُنَّة، ونرضى بها ونحن المؤمنين بأن تكون لنا جَنَّة، ولم يزل البرد مشتد الشكيمة، ماضي العزيمة، قد تهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، والأنواء متواردة، والأنداء متوافدة، وإن لم تكن متتابعة، ولا كبقية السنين متزايدة، فإنّ هذا العام على ما شرح ولله الحمد أقلّ برداً من بقية الأعوام، كما أجمع عليه من سكن الرُّوم من العرب والعجم والأرْوام، واستمر جيش الغمام محاصراً ليالي وأيّام، يجرد بوارقه، ويخوف بصوت رعده صواعقه، ويفوق عن قوسه الممدود في الأفق نبل وبله، ويبعث تحت مدد قطره سرايا سيوله، فيستولي على الربى بخيله ورجله، والثلوج قد شابت منها قلوب الرجال، كما شابت بها مفارق الجبال، إلى أن هزمه الربيع بجنده، وغلبه بجيوش زهره وشوكة ورده،