مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون فالفارابي أعظم الفلاسفة، وأبو كامل، وإبراهيم بن سنان أعظم علماء الرياضيات، والمسعودي أعظم الجغرافيين، والطبري أعظم المؤرخين (?). ولو استرسل سارتون لذكر مئات الأعلام في مختلف ضروب العلم، بله الكتاب والشعراء وأصحاب الفنون، وعشرات آلاف المصنفات النفيسه التي خلفوها فهل انحصرت الثقافة العربية في الشرق ووقفت عنده؟
راقت العرب الإقامة في الأندلس وظنوا أنفسهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا فتفننوا في إتقان دورهم وتنسيق حدائقهم وتنظيم دساكرهم لتنسجم وما شيده الخلفاء والأمراء من مئات المساجد والقصور والأبراج والحمامات والحدائق فجاء وليد الفطرة والبيئة أكثر منه جلباً من الشرق كمعظم آثارهم العقلية. وأدخلوا إلى الأندلس الأساليب الزراعية التي عرفوها في الشرق، وجاءوها بأشجار وأغراس أزاهير وبقول، من دمشق ومصر وأفريقيا والهند. وعنوا بالصناعات على اختلافها كالحياكة والدباغة والمعادن والسلاح والنقش في الخشب والزجاج والخزف. حتى إذا تم لهم بناء الأندلس السياسي والاقتصادي والاجتماعي سعوا إلى التشبه بالعباسيين في إرساء ملكهم على أسس من الفنون والآداب والعلوم: فأسسوا المدارس وحبسوا الأموال عليها، وخرجوا في طلب الكتب إلى الشرق وملأوا مكتباتهم الخاصة منها ما خلا خزائن بعض المساجد، لا كما قال الغزيري: إن مكتبات قرطبة العامة بلغت السبعين عداً» (?).
ووفد على قرطبة ثم على غيرها من حواضر الأندلس أهل الفن والأدب والعلم، من الشرق والغرب، وعنوا بتفاصيلها تفسيراً واقتباساً وتصنيفاً، واختلفوا إلى مجامع كمجامع اليوم للجدل والمناظرة، وجلست الأميرات للشعراء ووازن بينهم.
وأقبلت الأندلس على تلك الثقافة التي تميزت بتعدد مبدعيها: عرباً وبربراً ومستعربين ويهوداً ونصاري، في إدراك وحب وسماح إلا ما حرمها منه الفقهاء،