وأصبح لهذا المذهب العربي الأصيل في الأدب العربي الحديث عشاقه وشعراؤه، وكأن واقع الشاعر في حاضره ومعاصرته يدفعه إلى هذا الاتجاه، ويجعله دائمًا يصطدم أمام المطامع العظيمة لتحقيق رغباته وآماله، ويجد الشاعر نفسه أمام العقبات والسدود، فيفيق من هذه الصدمة العنيفة، ليجد نفسه أمام طريقين لا مناص منها:
أحدهما: طريق الشكوى والحزن والألم، والنزوع إلى الفردية، والتغني بالذاتية، والشعور بالوحدة، والإيواء إلى العزلة، والاختلاء بالنفس، فيأنس الشاعر إلى شعره الذي يعتصر هذه المآسي، ليكون عوضًا عن تحقيق رغبته نوعًا ما.
ثانيهما: الهروب إلى الطبيعة من الحياة التي تموج بصراعات الأحياء والناس، لينسوا واقعهم المرير، ويبثوا الشكوى إلى مظاهر الكون من جبال ووديان وأشجار وبلابل، وسماء، وكواكب، ومياه رياح وعواصف، وورود وأزهار، وأنهار وبحار، وغابات وزروع، وغير ذلك من مناظر الطبيعة الخلابة، وعرصاتها الجذابة، فيتجاوب معها الشاعر في عطف وحب وعناق ويسبّح بروحه إلى ما وراءها، ويهيم بأودية الأحلام والأوهام، فينمي هذا الاتجاه الانطواء والعزلة، والتشاؤم والحذر، والطيرة والتطير.
ومن خلف هذين الطريقين يلح على الشاعر المعاصر تيار الصراع المادي الطاغي مع القيم ومقتضيات الحياة، وحاجاتها الضرورية والكمالية، فإن استجاب للقيم وحدها وسدد خطاه بمبادئه السامية أصبح في نظر المعاصرين متخلفًا رجعيًّا، وقطعة بالية قديمة ينبغي أن تهمل وتغيب عن الوجود كما ذهبت في الماضي، وإن استجاب الشاعر للجانب المادي الصرف وحده، ليجاري واقع العصر المادي المسرف في المادية انقطعت صلة الحاضر بالماضي، وتجرَّدت القيم النبيلة التي يكون بها الإنسان إنسانًا، وانقطعت صلة الإنسان بخالقه وبارئه، وحيئنذ تكون الكارثة، وينداح الشاعر بين التيارين العنيفين في قلق واضطراب لا يستقر على حال، حتى تتراءى له في غياهب الظلام سفينة النجاة من بعيد، يمخر بها عباب الماء المتكاثف من ضاب التيارين المتعانقين: القيم والمادة ممتزجان في توازن واتزان، وتلاحم وانسجام، وتلك هي فطرة الإسلام الكامل للحياة والناس، لأنه دين ودنيا، قيم وتشريع، تهذيب وبناء للحياة.
ولا أدلّ على الاتجاه الأول المسرف في جانب واحد فقط من قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} .
ولا أدل على الاتجاه الثاني من التوازن والاتزان من قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، والفرق بين الأيتين كالفرق الجوهري بين المادية المسرفة في أوروبا والغرب، وبين قيم التشريع الإسلامي في أمة الإسلام في الشرق.