فهو يشتمل على معنى " الإنساء " الذي هو بمعنى الترك، ومعنى " النَّساء " الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك" (?).
وقد حمل الرازي (النسيان) على معنى (الترك)، فقال: " الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى: {فنسى ولم نجد له عزما} [طه: 155] أي فترك وقال: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هاذا} [الأعراف: 51] أي نتركهم كما تركوا، والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز، لأن المنسي يكون متروكا، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقراء ننسها وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله: ما ننسك من آية أو ننسخها، وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها" (?).
وأنكر الطبري من قرأ: {أو نَنْسها}، إذا عني به النسيان، فقال: "وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز، وأما قوله: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله، فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله" (?).
قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، "أي نأت بخير لكم منها" (?).
قال الواحدي: " أي: أصلح لمن تعبّد بها، وأنفع لهم، وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم، لا أن آيةً خيرٌ من آية؛ لأن كلام الله عز وجل واحد، وكله خيرٌ" (?).
قال أبو حيّان: الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل، والخيرية ظاهرة، لأن المأتي به، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب" (?).
قال القرطبي: " لفظة "بخير" هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية" (?).
قال الزجاج: " فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام، ودليل ذلك قوله: [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]، فهذا هو خير لنا كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمَّا قوله {أَوْ مِثْلِهَا} أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ، والناس إليه أسرع، نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا - وإِن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام" (?).