أحدهما: أنها تفيد النفي، وهي بمعنى (لم) معطوفا على قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، أي: ولم ينزل على الملكين. قاله ابن عباس (?).
وانتصر له القرطبي، إذ قال: "قوله-تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى المَلَكَين}: (مَا) نفي، والواو: للعطف على قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيمَان) وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: {وَلَكنَّ الشَّيَاطينَ كَفَرُوا} هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى ما سواه" (?).
والدافع لأصحاب هذا القول في نفي نزول السحر على الملكين أنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقوله {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، ومع كون العقل لا يدفع وقوع المعصية من الملائكة، لكن وقوع ذلك الجائز عقلاً لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح (?).
كما أن نفي كون المنزل سحراً يأتي أيضاً على قول من جعلها معطوفة على السحر كما هو الظاهر لأنها معطوفة، والعطف يقتضي التغاير (?).
والثاني: أنها موصوله بمعنى (الذي)، وتقديره الذي أنزل على الملكين.
ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال (?):
الأول: أنه عطف على (السحر) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضا.
وثانيها: أنه عطف على قوله: {ما تتلوا الشياطين} أي واتبعوا الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين. وهذا قول ابن عباس في رواية أبي طلحة عنه (?)، وأبي العالية (?)، وروي عن خالد بن أبي عمران، والربيع بن أنس نحو ذلك (?).
فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما.
وثالثها: أن موضعه جر عطفا على (ملك سليمان) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين. وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله (?).
وأنكر أبو مسلم في الملكين أن يكون السحر نازلا عليهما واحتج عليه بوجوه (?):
الوجه الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك.
الوجه الثاني: أن قوله: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل.
الوجه الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى.
الوجه الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة