و (السِّحر) في اللغة: يطلق على كل شيء خفي سببه ولطف ودق؛ ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السِّحر؛ ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري:

جعلت علامات المودة بيننا ... مصائد لحظ هن أخفى من السِّحر

فأعرف منها الوصل في لين طرفها ... وأعرف منها الهجر في النظر الشزر (?)

قال الراغب: "تطلق مادة ـ س ح ر ـ عند علماء اللغة على معان جمّة، تبعاً لورود استعمالها في الوضع الذي وقع فيه التخاطب ومنها: التمويه بالحيل والخداع والخفاء والاستمالة واللطافة (?)، فهو عبارة عما لطف أمره وخفي سببه (?)، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من البيان لسحراً" (?)، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وشبَّهه بالسِّحر لأن السِّحر صرف الشيء عن حقيقته (?).

وسُمِّي السَّحور سَحوراً لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْر الرئة وهي محل الغذاء، وسُمِّيت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه؛ كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سَحْرُه أي رئته من الخوف (?)، وقالت عائشة رضي الله عنها: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سَحْري ونَحْري" (?)، وقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، أي أخفوا عنهم عملهم.

و(السِّحر) في الاصطلاح لا يمكن تعريفه بحد جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها؛ ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً.

قال بعضهم: السِّحر عزائمُ ورُقَى وعُقَد يؤثِّر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرِّق بين المرء وزوجته ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه (?).

وقال ابن قدامة: "هو عُقَد ورُقَى يُتَكَلَّمُ به أو يكتبه الساحر أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له" (?).

وقال البيضاوي: "المراد بالسِّحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس؛ فإن التناسب شرط في التضام والتعاون (?).

وقال ابن حجر الهيتمي: "وشرعاً يختص بكل أمر يخفى سببه وعمل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع" (?).

وقال ابن عرفة رحمه الله في حدوده: "أمر خارق للعادة مسبَّب عن سَبَب معتاد كونه عنه، قال شارحه: معناه أن الخارق للعادة مسبب عن سبب معتاد كون ذلك المسبب عن ذلك السبب فأخرج به الكرامة والمعجزة" (?).

واختلف في (السّحر)، هل هو حقيقة أم هو تخييل لا حقيقة له:

والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما دلّ عليه قوله تعالى {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، لأن وصف سحرهم بالعظيم يدل على أنه غير خيال، وقوله تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبَّر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن (?)، فلولا أن السِّحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه (?).

قال ابن قيم: "وقد دل قول الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وحديث عائشة (?) رضي الله عنها على تأثير السحر وأنَّ له حقيقة" (?).

ومن السّحر ما هو تخييل، كما في قوله تعالى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وقوله {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السِّحر خيال لا حقيقة له.

قال النووي: "والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة" (?).

قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، "أي: وكما اتبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكين وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس" (?).

قال السعدي: أي " وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر" (?).

وقرأ الزهري {هاروت وماروت}، بالرفع على: هما هاروت وماروت. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من: الهرت والمرت - وهو الكسر كما زعم بعضهم - لانصرفا (?).

واختلف في العطف في قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، على وجهين (?):

أحدهما: عطف على {السحر}، أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين.

والثاني: أنه عطف على {ما تتلو}، أى واتبعوا ما أنزل.

واختلف أهل العلم في تفسير (ما) التي في قوله: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، على وحهين:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015