والثاني: وقيل: عنى الله جل ثناؤه بقوله: {وأنتم معرضون}، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: {ثم توليتم إلا قليلا منكم}: ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم، ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
والثالث: أن "الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل. قاله ابن عطية (?)، وروي نحوه ابن عباس (?).
والقول الأول هو الاقرب إلى الصواب، وهو اختيار الجمهور، ومنهم الامام الطبري (?). والله أعلم.
الفوائد:
1 ن فوائد الآية: بيان عظمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {وإذ أخذنا}؛ لأن الضمير هنا للتعظيم؛ وهو سبحانه وتعالى العظيم الذي لا أعظم منه.
2 ومنها: أن التوحيد جاءت به الرسل جميعاً؛ لقوله تعالى: (لا تعبدون إلا الله).
3 ومنها: أن العبادة خاصة بالله. تبارك وتعالى؛ فلا يعبد غيره؛ لقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله}؛ لأن هذا يفيد الحصر.
4 ومنها: وجوب الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً}؛ وإنما أوجب ذلك؛ لأن نعمة الوالدين على ولدهما هي التي تلي نعمة الله عزّ وجلّ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14]؛ فهما سبب وجودك، وإمدادك، وإعدادك. وإن كان أصل ذلك من الله؛ فلولا الوالدان ما كنت شيئاً؛ والإحسان إلى الوالدين شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وغير ذلك من أنواع الإحسان؛ وضده أمران؛ أحدهما أن يسيء إليهما؛ والثاني: أن لا يحسن، ولا يسيء؛ وكلاهما تقصير في حق الوالدين مناف لبرهما؛ وفي الإساءة زيادة الاعتداء.
5 ومن فوائد الآية: وجوب الإحسان إلى ذوي القربى. أي قرابة الإنسان. وهم من يجتمعون به بالأب الرابع، فما دون؛ ولكن يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت؛ فكل من كان أقرب فهو أولى بالإحسان؛ لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف؛ فمثلاً يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم؛ ويجب عليك من صلة الخال أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد الخال.
وقد اتفق العلماء أن حكم صلة الرحم المؤمنة الصالحة المضرة دنيوياً غير واجبة، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: "أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه، فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية" (?).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا ضرر ولا ضرار" (?)، وأما حكم صلة الرحم المؤمنة الصالحة المؤذية دنيوياً فغير واجبة على مذهب بعض أهل العلم طبعاً باستثناء الوالدين , وقالوا عن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: : " لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك" (?)، أن الحديث محمول على استحباب صلة الرحم المؤذية لا وجوب ذلك، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والورع يا عبدالله يقتضي صلة الرحم المؤمنة الصالحة المؤذية مالم تصل إلى حد الضرر , والفرق بين الضرر والأذى ـ والله أعلم ـ أن الأذى هو الضرر اليسير، قال ابن عطية: قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ـ معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة. وقال القرطبي: "وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرًّا يَسِيرًا" (?).