وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى، وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره، وهؤلاء اليهود مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} (الأنعام: 38 - 39)؛ كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أممٌ سُخِّر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم.
وثالثها: أو أشد قسوة، لأن الأحجار يُنتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها البتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه.
وقال تعالى: {أشد قسوة} ولم يقل (أقسى)، لوجهين (?):
الأول: لأن ذلك أدل على فرط القسوة.
والثاني: ووجهٌ آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة.
وقد فضل الله سبحانه وتعالى الحجارة على قلوبهم، بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع (?):
فأولها: قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار}، قرىء: "وإن" بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة، ومنها قوله تعالى: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} [يس: 32].
وثانيها: قوله تعالى: {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء}، أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينا لا نهرا جاريا.
وثالثها: من المميزات الأخرى للحجارة على قلوب هؤلاء: {وإن منها لما يهبط من خشية الله}، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.أي الهبوط من خشية الله (?).
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74]، " يعني إن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار" (?).
قال الطبري: أي"وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار" (?).
قال الماوردي: " يعني: أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية، لِتَفَجِّرِ الأنهار منها" (?).
قال الزمخشري: " المعنى: إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير" (?).
قال أبو السعود: " بيانٌ لأشَدِّية قلوبِهم من الحجارة في القساوة وعدمِ التأثر واستحالةِ صدورِ الخيرِ منها يعني أن الحجارةَ ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياهُ العظيمة" (?).
وقال يحيى بن يعقوب في قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار}، قال: هو كثرة البكاء" (?).
قلت: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد والتكلف، مع تسليمنا بصدق ما يتضمنه من معان نفيسة. والله أعلم.