من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده: " اهبطوا مصرا " البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي " مصر " التي خرجوا عنها. غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في " مصر "، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: {قواريرا قواريرا من فضة} [الإنسان: 15 - 16] منونة اتباعا منه خط المصحف، وأما الذي لم ينون " مصر " فإنه لا شك أنه عنى " مصر " التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها (?).
قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61]، " أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة" (?).
قال الواحدي: " أي: ألزموها إلزامًا لا تبرح عنهم" (?).
قال ابن كثير: أي"وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون" (?).
قال الراغب: "أي ألزمت وأوجبت، تشبيها بضرب الخيمة على من فيها والإحاطة به" (?).
يقال: ضرب عليه كذا، إذا ألزمه، وأصله من ضرب الشيء على الشيء، كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه، ومنه الضريبة، يقال: ضرب السلطان على التجار ضريبة أي ألزمهم، ضربة لازم ولازب (?)، ومنه قول النابغة (?):
وَلا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ... لا يَحْسِبُون الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازَبِ
و(الذلة): هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر ِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (?).
أخرج الطبري: "عن الحسن وقتادة في قوله: {وضربت عليهم الذلة}، قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون" (?).
وأما {المسكنة} في هذا الموضع، مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها (?).
وأخرج الطبري: " عن أبي العالية في قوله: {والمسكنة} قال: الفاقة" (?).
وروي عن السدي: في "قوله: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة}، قال: الفقر" (?).
وقال الزجاج: " (الذِّلَّةُ): الصغار، (الْمَسْكَنَةُ): الخضوع، واشتقاقه: من السكون، إِنما يقال مِسْكين للذي أسكنه الفقر، أي قللَ حركته" (?).