والثاني: أنه مصر التي كان فيها فرعون. قاله أبو العالية (?)، والربيع (?). واختاره الأعمش (?).
قال الفراء: " وقال الأعمش وسئل عَنْهَا فقال: هِيَ مصر التي عليها صالح بْن عليّ (?) " (?).
واحتجوا في ذلك من وجهين:
الأول: قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59]، وقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28]، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها.
والثاني: أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: {اهبطوا مصر}، بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها (مصر) بعينها (?).
واعترض عليه الثعلبي قائلا: " وإنّما صرف على هذا القول لخفّته وقلّة حروفه مثل: دعد وهند وحمل ونحوها" (?).
وأما القراءة بغير التنوين، فهي قراءة مهجورة، وصرف لخفته (?).
قال الطبري: "ولا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله" (?).
و(المصر) أصله في اللغة: الحدّ والحاجز بين الشيئين، ومصر الدار: حدودها (?)، ويقال أن أهل هجر يكتبون في شروطهم: اشترى فلان الدار بمصورها، أي: حدودها (?)، قال عدي بن زيد (?):
وَجَعَلَ الشَمْسَ مِصْرًا لاخَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْل قَدْ فَصَلا
أي: حدًّا، ومُصُور الدار: حدودها، فالمصر: القطعة التي بانت بعمارتها عما سواها وانتهت إليه البرية (?).
وقد اختلف القَرَأَة في قراءة قوله {اهْبِطوا مِصْراً} [البقرة: 66]، على ثلاثة أوجه (?):
الأول: قرأه عامة القَرَأَة: {اهْبِطوا مصراً}، بتنوين (المصر) وإجرائه.
والثاني: وقراءة عَبْد اللَّه {اهْبِطوا مِصْرَ} بغير ألف.
والثالث: وفي قراءة أُبَيٍّ: {اهْبِطُوا فَإِنّ لَكُمْ ما سَأَلْتُم وَاسْكُنُوا مِصْر} (?)، وتصديق ذلك أنها فِي سورة يوسف بغير ألف: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].
قال الطبري: "فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه. فتأويله - على قراءتهم -: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم - إذا هبطتموه - ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض