قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]، " أي أتأخذون الذي هو أدنى بدلاً عن الذي هو خير" (?).

قال قتادة: "يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه" (?).

قال الزمخشري: أي: أتستبدلون"الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً" (?).

قال الطبري: أي" أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ " (?).

قال ابن كثير: " فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع" (?).

قال المراغي: " أي: قال لهم موسى على سبيل التوبيخ والاستهجان: أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المنّ الذي فيه حلاوة تألفها الطباع، والسلوى الذي هو أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ وليس فيما طلبوا ما يساويهما؟ " (?).

وقال الزجاج: " يعني أن المنَّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم" (?).

و(الاستبدال): "هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك" (?).

قال الفراء: "وقد كان زُهير الفُرْقُبي (?) يَهْمِز: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذى هو أدنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، ولم نر العرب تهمزُ (أَدْنَى) إذا كان من الحسة، وهم فِي ذلك يقولون إنه لدانىء خَبِيثٌ، إذا كان ماجنا فيهمزون. وأنشدني بعض بني كلاب (?):

باسِلَةُ الْوَقْعِ سَرَابِيلُها ... بيضٌ إلى دانئها الظّاهر

يعنى الدروع على خاصتها- يعني الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس، وقد كُنَّا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانِئًا ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلّا وقد سمعوه" (?).

قال الزجاج: " و (أدنى) القراءَة فيه بغير الهمز وقد قرأ بعضهم {أدْنأ بالذي هو خير}، وكلاهما له وجه في اللغة إلا أن ترك الهمزة أولى بالاتباع" (?).

واختلف في المراد بـ (الأدنى) في قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]، على قولين (?):

الأول: أن معناه: الذي أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، أي استبدال المن والسلوى بالبقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، وهو يعني استبدال الوضيع من العيش الرفيع منه.

وقد روي عن مجاهد قوله: " {الذي هو أدنى}، قال: أردأ" (?).

والثاني: أن معناه: الذي هو أقرب، ووجه قوله: (أدنى)، إلى أنه أفعل من " الدنو " الذي هو بمعنى القرب.

والقول الأول أقرب إلى الصواب، وعليه الجمهور.

واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة (?):

الأول: أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج.

الثاني: لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه.

الثالث: لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.

الرابع: لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.

الخامس: لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.

قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61]، أي"اهبطوا أيّ مصر من الأمصار تجدون ما سألتم" (?).

قال الثعلبي: " يعني فإن أبيتم إلّا ذلك، فاهبطوا مصرا من الأمصار" (?).

قال الصابوني: " أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء" (?).

وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى {اهْبِطوا مِصْراً} [البقرة: 66]، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته، وذكروا فيه وجهين (?):

أحدهما: أنه مصر من الأمصار. قاله قتادة (?)، والسدي (?)، ومجاهد (?)، وابن زيد (?).

ومن حجتهم: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر. وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 21 - 24]، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشأم، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ: " اهبطوا مصر "، ونتأوله أنه ردهم إليها، قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59]، قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015