والثامن: أن (حِطَّة): كانت تعني في ذلك المكان الدلالة على العجز، وهي من أقوال أصحاب المسألة والشحاذين، أمروا بها كيلا يحسب لهم أهل القرية حساباً، ولا يأخذوا منهم حذراً، فيكون القول الذي أمروا به على ذلك قولاً يخاطبون به أهل القرية (?).
والتاسع: أن (حِطَّة) تعني إقامة من الحط بمعنى حط الرحال وإنزالها، أي: ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة والاستقرار بها، قاله أبو مسلم الأصفهاني (?).
وهذان القولان الأخيران كما ذكر الألوسي بعيدان لعدم ظهور تعلق الغفران بهما (?).
وأحسن هذه الوجوه وأقربها إلى التحقيق القول الأول، والله أعلم.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت (الحطة)، على أقوال (?):
الأول: فقال بعض نحويي البصرة: رفعت (الحطة) بمعنى (قولوا) ليكن منك حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل: سَمْعُك.
والثاني: وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك.
والثالث: وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت (الحطة) بضمير (هذه)، كأنه قال: وقولوا: (هذه) حطة.
والرابع: وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون (حطة) حينئذ خبرا لـ (ما).
والأقرب إلى الصواب: "أن يكون رفع (حطة) بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: (وادخلوا الباب سجدا)، كما قال جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي تأويل قوله: (وقولوا حطة)، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد" (?).
وأما على تأويل قول عكرمة، "فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في (حطة)، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: (لا إله إلا الله)، أو أن يقولوا: (نستغفر الله)، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، ف (قولوا) واقع حينئذ على (الحطة)، لأن (الحطة) على قول عكرمة - هي قول (لا إله إلا الله)، وإذا كانت هي قول (لا إله إلا الله)، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: " قل خيرا " نصبا، ولم يكن صوابا أن يقول له: (قل خير)، إلا على استكراه شديد، وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع (الحطة) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة)، وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: (وقولوا حطة)، أن تكون القراءة في (حطة) نصبا، لأن من شأن العرب - إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال - أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر (?):
أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم ... على أمهات الهام ضربا شآميا
وكقول القائل للرجل: (سمعا وطاعة) بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: (معاذ الله) [يوسف: 23] بمعنى: نعوذ بالله" (?).