والحق أن هذا نفى للرؤية لا إثبات لها كما يزعمون، وإن المعتزلة لا تمنع مثل هذه الرؤية التى هى بمعنى الكشف أو زيادة الانكشاف والمعرفة كما نقله بعضهم.
ولنتأمل ما قاله الآمدى: "وذلك أن ما يخلقه الله من زيادة الكشف إن كان من ذات الشئ ووجوده بالنسبة إلى ما يحصل من تعلق علم النفس به شرحا سمى ذلك نظرا .. " إلى أن قال: "فإن البصر هو ما يخلقه الله من زيادة الكشف من كونه ذاتاً ووجوداً وذلك مما لا يستحيل تعلق العلم به حتى لا يسمى ما حصل من مزيد الكشف عليه بصرا .. " (?).
قال التفتازانى": ورؤية الله تعالى بمعني الانكشاف التام بالبصر، وهو معني إدراك الشيء كما هو بحاسة البصر" (?).
فالمقصود والظاهر من كلامهم أنه ليس نظراً بالأبصار كما أثبته الأشعرى والسلف الصالح، وإنما هو زيادة الكشف، كما أن بعضهم يرى أن الرؤية إدراك يخلقه الله لهم.
قال السنوسى: "إذ كما صح تفضله سبحانه بخلق إدراك لهم فى قلوبهم يسمى العلم يتعلق به على ما هو من غير جهة ولا مقابلة، كذلك يصح تفضله تعالى بخلق إدراك لهم فى أعينهم أو غيرهما يسمى ذلك الإدراك البصر" (?).
ويقول الدردير: "الرؤية عبارة عن نوع من الإدراك يخلقه الله تعالى متى شاء ولأى شىء شاء .. فكما أن العلم إدراك، وهم يعلمونه لا فى مكان ولا فى جهة .. فكذا الرؤية نوع من الإدراك فيدركونه كذلك، ومع ذلك هو انشكاف تام" (?).
أما الرازي فمال إلى استحالة الرؤية يوم القيامة فقال: "إن رؤية الله تعالى بالتفسير المذكور بتقدير أن تحصل فمحلها هو العين والحادقة أم جوهر النفس؟ والأول كالمستبعد جداً، وأما أن محل ذلك الإدراك الشريف هو جوهر النفس الناطقة، فهذا أقرب إلى العقل " (?).
هكذا تنوعت عبارات الأشاعرة فى حقيقة وماهية الرؤية، والحقيقة أنهم رغم اختلاف عباراتهم إلا أنهم اتفقوا على أن الله لا يرى بالأبصار، أنه لا مقابلة فى هذه الرؤية، ولا جهة.
وعند التحقيق لم يعدُ الأشاعرة عن إثبات اسم بلا مسمى، وقد أكثر الأشاعرة من الطعن والتشنيع على المعتزلة فى نفيهم الرؤية، علماً بأنه لا فرق بين الأشاعرة الذين يكون بأن الرؤية هى العلم، وبين خصومهم من المعتزلة.
والأشعرية فى هذا الباب بين نارين:
أولاً: النصوص الشرعية التي تثبت الرؤيا، مع تصريح علماء المذهب الأولين بإثباتها، وأنها أحد أبرز الخلافات مع المعتزلة النافين للرؤية.
ثانياً: الإلزامات التي تلزم عن إثبات الرؤية من قبل خصومهم وخاصةً المعتزلة.
فقالوا لهم: إذا كان الله يرى فلابد من المقابلة بين الرئى والمرئى، ولابد من مكان وجهة للرئى والمرئى، وبالتالي يوصف الله تعالى بأوصاف المحدثات.
وكقولهم: إذا كان يرى فهل يرى كله أم بعضه، ورؤيته كله أى الإحاطة به ممتنعة، ورؤية بعضه فيه تبعيض وتجزئة له، وهو من صفات المحدثات.
وكقولهم: هل إذا رأيناه وأدرنا وجوهنا فى الخلف هل نراه فيها؟ وهذا ما حدا ببعض الأشاعرة إلى القول بأنه يرى فى كل جهة.
وكان ينجى الأشاعرة من هذه الإلزامات أن يقولوا لخصومهم كما قال السلف الصالح من هذه الأمة: إن الله يرى بكيفية لا نعلمها نحن، ومادام الله تعالى أخبر عن نفسه أنه يرى وأخبر عنه رسوله أنه يرى