فلا يقال إنه لا يُدْرَك ويكون المراد كمالاً إلا وأَصْلُ ذلك ثابتاً، وهو أنه في محل من يُرَى أو في محل الرؤية .. لأنك متى ما قلت في شيء إنك تراه أو لا تدركه رؤيةً فإنما يكون كمالاً إذا كان في محل ما يمكن أن يُرَى، أما الأشياء التي لا تُرَى أصلاً فإنه ليس من الكمال أن تَنْفِي الرؤية عنها.
فكونك تنفي الرؤية عن الرحمة لا يعد هذا كمالا في الرحمة، وإنما هكذا وُجِدَتْ، كونك تنفي الرؤية عن الإبصار والإدراك لا يدل على كمال فيها.
فإذاً دَلَّ نَفْيُ الإدراك عن الرب - عز وجل - أنَّ نَفْيَ الإدراك لأجل أنه عظيم عز وجل فإنه يُرَى، ولكنه لا يُدْرَكْ.
والإدراك ينقسم إلى قسمين: إدراكٌ بِرُؤْيَةٍ، وإدراك بعلمه.
والإدراك بعلم: نَفَاهُ الله عز وجل في قوله سبحانه) وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا).
وإدراك الرؤية: نفاه الله عز وجل في هذه الآية.
وهذه الآية في إدراك الرؤية لا في إدراك العلم، دلَّ عليها قوله بعد النفي {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، فكونه سبحانه {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يعني يراها، وخَصَّ الإدراك بإدراك الأبصار لأنَّ الأبصار هي محل نَفْيِ الإدراك السابق، فقال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، فلما قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} دَلَّنَا على أَنَّ المنفي هو إدراك الرؤية لا إدراك العلم (?).
الدليل الثاني:
- قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
قالوا: ولَن موضوعة للتأبيد وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعاً (?).
وقد أجابهم الإمام صدر الدين ابن أبى العز الحنفي فقال: وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {قَالَ لَن تَرَانِي}، وبقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فالآيتان دليل عليهم.
الآية الأولى: فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه:
1 - أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته - أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
2 - أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
3 - أنه تعالى قال (لَن تَرَانِي)، ولم يقل: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي، والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: أنه لا يؤكل، أما إذا كان طعاما صح أن يقال: إنك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى.
4 - وهو قوله (وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟
5 - أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
6 - قوله تعالى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله تعالى أعلم موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
7 - أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما.
وأما دعواهم تأييد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة، ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت؟ قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]، مع قوله {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]، فثبت أن " لن " لا تقتضي النفي المؤبد.
قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله تعالى:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا (?)
وقد استدل المعتزلة على نفى الرؤية فى الدنيا والآخرة مطلقاً بعدة أدلة أخرى من القرآن، وأضافوا إلى ذلك أدلةٍ عقلية منها الآتي: -
1 - المقابلة: وتحريره كما قال عبد الجبار: إن الواحد منا راء بحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلاً، ولا حالاً في المقابل، ولا في حكم المقابل (?).
وقد أجاب الرازى عن هذه الشبهة فى كتابه الأربعين، بعدة أجوبه ومنها نفى الحيز والجهة (?)، والحق أن الجواب عن دليل المعتزلة بتسليم نفي الجهة والمقابلة عن الله تعالى لا يستقيم حيث إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة مكابرة عقلية، لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات الملزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ثم إن الثابت بالنصوص الصحيحة إثبات الرؤية لله تعالى كرؤية الشمس والقمر .. ثم أن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد بالكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ولا يقدح هذا في التنزيه، لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكمال.
أما لفظ الجهة: فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها، ولا إثباتها بالنص، فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ (?).
2 - من أدلة المعتزلة على نفي الرؤيا الانطباع: وتقريره كما ذكر الرازي: "أن كل ما يكون مرئيا فلا بد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، والله تعالى يتنزه عن الصورة والمثال، فوجب أن تمتنع رؤيته" (?).
3 - وأيضاً قالوا: إن كل ما كان مرئياً فلا بد له من لون وشكل، ودليله الاستقراء والله تعالى منزه عن ذلك فوجب ألا يرى (?).
والجواب عن الدليلين، هو: منع كون الرؤية بالانطباع، ومنع كون المرئي ذا لون وشكل، إما مطلقاً أو في الغائب لعدم تماثل الرؤيتين، فرؤية الخالق ليس كرؤية المخلوق، فلا يجب هذا في حق الله تعالى حيث إن ذات الله مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم (?).
والحكم بأن المرئي لابد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، وأنه لا بد وأن يكون ذا لون وشكل مبني على أن هذه الأشياء المشاهدة المحسوسة لا ترى إلا كذلك، ثم قالوا لو صح أن يرى الله فلا يرى إلا كذلك وهو ممنوع في حقه تعالى، والحق أنه تحكم محض وقياس للخالق على المخلوق، وهو باطل قطعا لأنه قياس مع الفارق، فالله تعالى ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، فلا يصح قياسه عليه (?)، قال تعالى {قُلْ