لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل نَدَب الله عباده وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخًا أو منسوخًا بمعزل. لأن النسخَ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخًا بالإباحة" (?).

قال الطبري: " في هذه الآية إبانةٌ من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوِّفة المنكرين طلبَ الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، اكتسابًا منا ذلك بها" (?).

قال قتادة: " التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث (?): أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة" (?).

قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، "أي إِلا ما كان بطريق شرعي كالتجارة عن تراض منكم" (?).

قال ابن كثير: " وهو استثناء منقطع، كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال. كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وكقوله {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى} [الدخان: 56] " (?).

وفي قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، قولان:

أحدهما: أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار، وهو قول مالك بن أنس، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد (?).

والثاني: هو أن يخير أحدهما صاحبه بَعد العقد وقبل الافتراق، وهو قول شريح (?)، وابن سيرين (?)، والشعبي (?).

والراجح-والله أعلم- إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين، ما تفرّق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبَا فيه بينهما عُقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا» (?)، وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» (?)، فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه: اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده (?).

قال ابن كثير: ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي رحمه الله على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول؛ لأنه يدل على التراضي نَصا، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد، وخالف الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا، ومنهم من قال: يصح في المحقَّرات، وفيما يعده الناس بيعا، وهو احتياط نظر من محققي المذهب، والله أعلم (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015