تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه" (?).
قال الزمخشري: " وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت: معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن" (?).
قال الراغب: " إن قيل: لم خص لفظ ظلام الذي هو للتكثير في نفي الظلم في هذا المكان، ولم يقل على ما قال في قوله: {لا يظلم مثقال ذرة}، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟
قيل: إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يظن بمن يعذب غيره عذابا شديدا أنه ظلام قبل أن يفحص عن حال جرمه، بين تعالى ذنبهم، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلام لهم، وإن كان قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلام. تعالى الله عن الظلم" (?).
الفوائد:
1 - إثبات الأسباب، تؤخذ من قوله تعالى: {ذلك بما قدّمت أيديكم}.
2 - نفي الظلم عن الله عزّ وجل.
3 - أن الله يخبر عما يخبر من صفاته لتطين الخلقـ لقوله: {وأن الله ليس بظلّام للعبيد}.
4 - جواز اطلاق البعض على الكل إذا وجدت قرينة تدل عليه، لقوله: {بما قدّمت أيديكم}، فاليد بعض الإنسان لكن القرينة تدل على أن المراد الكل، يعني: بما قدّمتم.
القرآن
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)} [آل عمران: 183]
التفسير:
هؤلاء اليهود حين دُعُوا إلى الإسلام قالوا: إن الله أوصانا في التوراة ألا نصدِّق مَن جاءنا يقول: إنه رسول من الله، حتى يأتينا بصدقة يتقرب بها إلى الله، فتنزل نار من السماء فتحرقها. قل لهم -أيها الرسول-: أنتم كاذبون في قولكم; لأنه قد جاء آباءكم رسلٌ من قِبلي بالمعجزات والدلائل على صدقهم، وبالذي قلتم من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار، فَلِمَ قَتَل آباؤكم هؤلاء الأنبياء إن كنتم صادقين في دعواكم؟
في سبب نزول الآية جوه:
أحدها: ذكر الواحدي والثعلبي (?) عن الكلبي: "نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوة وفي فنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية" (?).
والثاني: أخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر قال: "كانت رسل تجيء بالبينات، ورسل علامة نبوتهم أن يضع أحدهم لحم البقر على يده، فتجيئ نار من السماء، فتأكله، فأنزل الله تعالى: {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} " (?).
والثالث: وروي عن جويبر، عن الضحاك: " قالوا: يا محمد إن تأتنا بقربان تأكله النار صدقناك، وإلا فلست بنبي، فقال الله تعالى: {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم}، أي: جاءكم بالبينات وبالقربان الذي تأكله النار" (?).