أحدهما: أنهم لا يرون لله أن يختص أحدا -بشيء فيه صلاح- غيره صرفه عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيا عندهم بخيلا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان.
وعندهم -أيضا-: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك، والله أعلم.
والثاني: أن الذي يحق عليه - أن يبذل كلا الأصلح في الدين، وأنه إن قصر أحدا عن ذلك كان جائزا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء" (?).
القرآن
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [آل عمران: 75]
التفسير:
ومن أهل الكتاب من اليهود مَن إنْ تأمنه على كثير من المال يؤدِّه إليك من غير خيانة، ومنهم مَن إنْ تأمنه على دينار واحد لا يؤدِّه اليك، إلا إذا بذلت غاية الجهد في مطالبته. وسبب ذلك عقيدة فاسدة تجعلهم يستحلُّون أموال العرب بالباطل، ويقولون: ليس علينا في أكل أموالهم إثم ولا حرج; لأن الله أحلَّها لنا. وهذا كذب على الله، يقولونه بألسنتهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون.
في سبب نزول الآية أقوال:
أ- اختلف أهل العلم في سبب نزول قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [الآية: 75]، على وجوه:
أحدها: قال مقاتل بن سليمان: " يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك
يعني كفار اليهود يعني كعب بن الأشرف وأصحابه، يقول منهم من يؤدي الأمانة ولو كثرت، ومنهم من لا يؤديها ولو ائتمنته على دينار لا يؤده إليك" (?).
والثاني: نقل ابن حجر عن ابن عباس: أن "الأول عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه فمدحه الله، والثاني فنحاص بن عازورا أودعه رجل من قريش دينارا فخانه فيه" (?).
والثالث: قال الثعلبي: " قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم، أخبر الله تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة، والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل" (?).
والرابع: قال السيوطي: " أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْك} قال: هذا من النصارى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْك} قال: هذا من اليهود: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} قال: إلا ما طلبته واتبعته" (?).
ب-كما اختلف أهل العلم في سبب نزول قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الآية: 75]، على وجهين:
أحدهما: قال ابن عباس: " {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: {ليس علينا في الأميين سبيل}، إلى آخر الآية" (?).