قال ابن كثير: " أي: هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره" (?).
قوله تعالى: {مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58]، " أي من آيات القرآن الكريم المحكم" (?).
قال ابن كثير: أي: " هو مما قاله الله تعالى، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك" (?).
قال محمد بن إسحاق: {والذكر الحكيم}: القاطع الفاصل الحق الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعن ما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلن خبرا غيره" (?).
عن علي-رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن- قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله هو الذكر الحكيم والصراط المستقيم" (?).
الفوائد:
1 - أن الله تعالى تكلّم في القرآن فقال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ}، إذ كانت التلاوة لله حقيقة، ونقلها جبريل إلى الرسول-صلى الله عليه وسلم-.
2 - أن القرآن الكريم آيات عظيمة لايحصيها البشر، يجدها ويتدبرها من فتح الله قلبه بالإيمان والعمل الصالح.
3 - أن القرآن ذكر، ذكر يتقرب إلى الله به وذكر يتذكر به الإنسان، فهو شامل لهذا وهذا.
4 - ومنها: وصف القرآن العظيم بهذا الوصف العظيم وهو الحكمة والذكر الحكيم، والحكيم هنا بمعنى الحاكم والمحكم، لأن القرآن حكم بين الناس، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، أي إلى كتابه، فهو حكم، وهو أيضا محكم متقن ليس فيه اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.
5 - فضيلة الرسول-صلى الله عليه وسلم 0 لقوله: {نتلوه عليك}، فخصه –صلى الله عليه وسلم- بالتلاوة لأنه-صلى الله عليه وسلم- أشرف من يتلقى القرآن، وأقوم الناس عملا به، فكأنه هو المخصوص بالتلاوة عليه.
القرآن
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]
التفسير:
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض، ثم قال له: «كن بشرًا» فكان. فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
سبب النزول:
قال ابن عباس: " وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيّد والعاقب فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد: أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم}، إلى آخر الآية" (?).
وروي عن قتادة (?)، والسدي (?)، وابن جريج (?)، وابن زيد (?)، والحسن (?)، والأزرق بن قيس (?)، مثل ذلك.
قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، " أي: إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم" (?).
قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، أي: خلقه من تراب من غير أب ولا أم، ثم قال له كن فكان" (?).
قال محمد بن جعفر بن الزبير: " فإن قالوا: خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا" (?).
قال ابن كثير: " والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب، عَزّ وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21] " (?).
الفوائد:
1 - من الفوائد: بيان إقامة الحجة بمثل ما يحتج به الخصم، لأنه أقام الحجة على النصارى بمثل ما احتجوا به، فقال: إذا قلتم: إن عيسى ابن الله، لأنه خلقة بلا أب، فقولوا: إن آدم ابن الله، وإلا فأنتم متناقضون.
2 - ومنها: بيان قدرة الله تعالى إذ خلق ىدم من غير أم ولا أب، وخلق عيسى من أم بلا أب.
3 - إثبات القياس، وذلك في قوله: {كمثل آدم}، وكل مثل مضروب في القرآن فإنه دليل على ثبوت القياس، لأنه إلحاق المورد بالمضروب، يعني: أنك ألحقت الممثل بالممثل به.
4 - إثبات القول للرب عزّ وجل، لقوله: {ثم قال له}.
5 - إثبات صفة الخلق لله، وهي صفة فعلية، وجنس الصفات الفعلية ذاتية، لأن الله لم يزل ولايزل فعّالا.
القرآن
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} [آل عمران: 60]
التفسير:
الحق الذي لا شك فيه في أمر عيسى هو الذي جاءك -أيها الرسول- من ربك، فدم على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الافتراء، ولا تكن من الشاكِّين، وفي هذا تثبيت وطمأنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.