قال المراغي: " أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم" (?).

قال ابن عباس: " فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل: {هنالك دعا زكريا ربه}، قال: فذلك حين دعا" (?).

قال السدي: " فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [سورة مريم: 4 - 6]، وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [سورة الأنبياء: 89] " (?).

قال محمد بن إسحاق: " حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال: " ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء "، ثم شكا إلى ربه فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} إلى {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} الآية" (?).

واختلف في سبب دعاء زكريا-عليه السلم- على قولين:

أحدهما: أن الله تعالى أذن له في المسألة، لأن سؤال ما خالف العادة يُمْنَع منه إلا عن إذن لتكون الإجابة إعجازاً. أفاده الماوردي (?).

والثاني: أنه لما رآى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف طمع في رزق الولد من عاقر. وهذا قول ابن عباس (?)، والسدي (?).

قال الماتريدي: " قيل: فعند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها - علم عند ذلك أن السؤال يصلح، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه، فذلك معنى قوله: (هنالك دعا زكريا ربه)، والله أعلم.

ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك - دعا الله - جل جلاله - أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب - عليه السلام - مع ما كان يعلم قدرة الله - تعالى - على ما يشاء من غير أن كان يحس على طلب الإكرام بكل ما يبلغه قدره، حتى رأى ما هو في الأعجوبة قريب مما كانت نفسه تتمنى، والله أعلم بالمعنى الذي سأل" (?).

قال أبو حيان: " أصل: {هنالك}، أن يكون إشارة للمكان، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية، أي في ذلك المكان دعا زكريا، أو: في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم، وأنها ممن اصطفاها الله، ارتاح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015