إلى آخر ليحصل على فتوى تعيدُ له زوجته، وكأن ورقة المفتي أو الشيخ هي التي تسمح له باستمرار زواجه، ولا يدرك هؤلاء الإثم الذي وقعوا فيه، فمن طلق زوجته بدعياً فهو آثمٌ لوقوعه في الحرام، وكذلك فإنهم يتحملون تبعات الطلاق المالية والاجتماعية كتفكك الأسرة وتشريد الأطفال. ومن أوضح الأمثلة على تساهل بعض الأزواج في الطلاق تلاعبهم بألفاظ الطلاق وادعاؤهم أنهم لا يقصدون الطلاق، ومن المعلوم أن جماهير أهل العلم قد اتفقوا على وقوع الطلاق عند صدور لفظ الطلاق عن الزوج، وإن لم يكن قاصداً للطلاق، كأن يكون هازلاً، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ جِدُهنَّ جِدٌ وهزلهُنَّ جِد، النكاحُ والطلاقُ والرجعةُ" (?).
ومن أمثلة التساهل في الطلاق الحلفُ بالطلاق، فإن هذه الصيغة ليست طلاقاً عند جماعة من الفقهاء واعتبروها من لغو الكلام، ومن الفقهاء من اعتبرها يميناً، فإذا وقع الحنث فيه تلزم كفارةُ يمينٍ، وقد اعتبر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاقٌ، إذا كان يُقصد به الحملُ على فعل شيءٍ أو تركه، وأما جمهور الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة في المعتمد عندهم، فقالوا إن الحلف بالطلاق يُعتبر طلاقاً. وعلى كل حالٍ فإن صور التساهل في الطلاق من الأزواج كثيرة، سواء كانت في العدد أو في الأحوال وغيرها، ومعلوم أن الطلاق مبغوضٌ كما روي في الحديث " أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ" (?).
كما ويجب على المفتين الحذر من التساهل في مسائل الطلاق، وللإمام الشاطبي كلام نفيس فذا الموضوع، إذ يقول: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ... بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ... وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه التبتل، وقال لمعاذ رضي الله عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟ ... ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا ... ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة" (?).
وقال العلامة ابن القيم: "من أفتى الناس، وليس بأهلٍ للفتوى، فهو آثمٌ عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك؛ فهو آثمٌ أيضاً. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علمٌ بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب، وهو يَطبُّ الناس، بل هو أسوأُ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين. وكان شيخنا -ابن تيمية- رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء أَجُعلت محتسباً على الفتوى، فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسب" (?).
القرآن
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} [البقرة: 230]