قال الطبري: " {إن الله سميع} لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ {عليم} بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل، أم الجور والحيْف" (?).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن من فعل الخير، ثم غُيِّر بعده كُتب له ما أراد؛ لقوله تعالى: {فإنما إثمه على الذين يبدلونه}.
2 - ومنها: أن من بدل الوصية جهلاً فلا إثم عليه؛ لقوله تعالى: {بعد ما سمعه}؛ ويؤخذ من هذا - بل من باب أولى - أنه لو تصرف في الوصية تصرفاً خطأً وهو معتقد أنه على صواب فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه مُوَلَّى على التصرف فيها؛ فإذا أخطأ فلا ضمان إذا لم يكن هناك تفريط، أو تعدٍّ.
3 - ومنها: تحريم تغيير الوصية؛ لقوله تعالى: {فإنما إثمه على الذين يبدلونه}؛ فيجب العمل بوصية الموصي على حسب ما أوصى إلا أن يكون جنفاً أو إثماً.
4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «السميع» و «العليم»؛ وما تضمناه من الصفة؛ والحكم الذي هو الأثر؛ فالسميع اسم؛ والسمع صفة؛ وكونه يسمع هو الأثر - أو الحكم؛ والعليم كذلك.
5 - ومنها: إحاطة الله عز وجل بكل أعمال الخلق؛ لأن قوله تعالى: {سميع عليم} ذكر عقب التهديد في قوله تعالى: {فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه}؛ وهذا يدل على أن الله يسمع، ويعلم ما يبدله الوصي.
6 - ومنها: الرد على الجبرية، وعلى القدرية؛ فالجبرية يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، ولا قدرة له، ولا اختيار؛ فأنكروا حكمة الله تعالى؛ لأنه إذا قيل بهذا القول الباطل انتفت حكمة الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب؛ وصار من فعل ما أمر به، أو ترك ما نُهي عنه ليس أهلاً للمدح؛ لأنه كالآلة ليس عنده قدرة، ولا اختيار؛ وكذلك أبطلوا حكمة الله في الجزاء؛ لأنه - على أصلهم - يجزي المحسن وهو غير محسن؛ ويعاقب العاصي وهو غير عاصٍ؛ والرد عليهم في قوله تعالى: {فمن بدله}؛ فأضاف التبديل إلى الإنسان.
وأما القدرية فيقولون: «إن الإنسان مستقل بعمله، ولا تتعلق به إرادة الله، ولا قدرته، ولا خلقه»؛ وغلاتهم ينكرون العلم والكتابة، يقولون: «إن أفعال العبادة غير معلومة لله، ولا مكتوبة عنده»؛ وقالوا: «إن الأمر أُنُف أي مستأنف - لم يكن الله يعلم شيئاً مما نفعله؛ إلا إذا وقع علمه بعد رؤيته، أو سمعه»؛ وجه الرد عليهم إثبات العلم لله.
قال الشافعي، وغيره من السلف: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا؛ وإن أنكروه كفروا؛ فإما إذا قالوا: إن الله لا يعلم فكفرهم واضح لتكذيبهم القرآن؛ وأما إذا قالوا: إنه يعلم لكن لا يقدرها، ولا يخلقها، قيل لهم: هل وقعت على وفق معلومه، أو على خلاف معلومه؟ سيقولون: «على وفق معلومه»؛ وإذا كان على وفق معلومه لزم أن تكون مرادةً له؛ وإلا لما وقعت.
فالحاصل أن في الآية رداً على القدرية، والجبرية؛ وكل منهم غلا في جانب من جوانب القدر؛ فالجبرية غلو في إثبات القدر، وفرطوا في أفعال العباد؛ والقدرية غلو في إثبات فعل العبد، وفرطوا في علم الله، وإرادته؛ والوسط هو الخير؛ فأهل السنة، والجماعة يثبتون لله العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق؛ كما يثبتون للإنسان إرادة، وقدرة - لكن ذلك تابع لإرادة الله؛ وخلقه -؛ وتفاصيل ذلك مبسوط في علم العقائد.
القرآن
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة: 182]
التفسير: