3 - ومنها: جواز الوصية بما شاء من المال؛ لكن هذا مقيد بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا؛ قال: فالشطر؟ قال: لا؛ قال: فالثلث؟ قال: الثلث؛ والثلث كثير» (?)؛ وعلى هذا فلا يزاد في الوصية على ثلث المال؛ فتكون الآية مقيدة بالحديث.
4 - ومنها: أن الوصية الواجبة إنما تكون فيمن خلّف مالاً كثيراً؛ لقوله تعالى: {إن ترك خيراً}؛ فأما من ترك مالاً قليلاً فالأفضل أن لا يوصي إذا كان له ورثة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (?).
5 - ومنها: أن الوصية ليست مقيدة بجزء معين من المال؛ بل هي بالمعروف.
6 - ومنها: أهمية صلة الرحم، حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت؛ لأن صلة الرحم من أفضل الأعمال المقربة إلى الله؛ فهذه إحدى أمهات المؤمنين أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم: أنها أعتقت جارية لها؛ فقال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» (?)؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم أعظم أجراً من العتق.
7 - ومنها: تأكيد وجوب الوصية على من ترك مالاً كثيراً لمن ذُكر؛ وجه التوكيد قوله تعالى: {حقاً على المتقين}.
8 - ومنها: أن المتقين هم الذين يراعون فرائض الله؛ ولذلك وجه الخطاب إليهم؛ لقوله تعالى: {حقاً على المتقين}.
مسألة:
إذا قال قائل: كيف يكون الوالدان غير وارثين؟ .
فالجواب: أن ذلك ممكن، مثل أن يكون الأب، أو الأم مخالفة في الدين؛ فإنه لا يرث فتوصي له.
كذلك بالنسبة للأقربين فإنهم قد لا يرثون لحجبهم بمن هو أولى منهم.
مسألة ثانية:
فإن قال قائل: إن الله فرض للأب السدس مثلاً؛ وللأم السدس؛ وللزوجة الربع؛ وللزوج النصف؛ وما أشبه ذلك؛ وهذا يقتضي أن يكون لهم فرضهم كاملاً؛ ومع تنفيذ الوصية ينقص من فرضهم بقدر الوصية؟ .
فالجواب: أن الله بين أن حق الورثة من بعد وصية يوصى بها، أو دين؛ وعلى هذا فلا إشكال في الآية في تقدير أنصباء الورثة؛ وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة.
القرآن
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} [البقرة: 181]
التفسير:
فمَن غَيَّر وصية الميت بعدما سمعها منه قبل موته، فإنما الذنب على مَن غيَّر وبدَّل. إن الله سميع لوصيتكم وأقوالكم، عليم بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق والعدل أو الجور والحيف، وسيجازيكم على ذلك.
قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181]، " أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد" (?).
قال سعيد بن جبير: " يقول: من بدل وصية الميت، بعد ما سمع من الميت، فلم يمض وصيته إذا كان عدلا" (?).
قال قتادة: " من بدل الوصيه بعد ما سمعها، قال: إثم ما بدل عليه" (?). وروي عن الحسن (?) مثل ذلك.
قال الثعلبي: " أي فمن غيّر الوصيّة من الأوصياء والأولياء أو الشهود، بعدما سمعه من الميت" (?).
قال البيضاوي: أي: " غيّره من الأوصياء والشهودـ بَعْدَ ما وصل إليه وتحقق عنده" (?).
قال الزمخشري: أي: " فمن غيّر الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقاً للشرع، من الأوصياء والشهود {بَعْدَ ما سَمِعَهُ} وتحققه" (?).
قال الطبري: أي" فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه - بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته" (?).
قال ابن عثيمين: " أي فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصىّ، بعدما عقله، وعرف طرقه وتنفيذه، والتغيير يكون" بنقص، أو زيادة، أو منعٍ؛ إن نقص فالضرر على الموصى له؛ وإن زاد فعلى الورثة؛ وإن منع فعلى الموصى له" (?).
قال ابن كثير: " ويدخل في ذلك الكتمان لها" (?). أي ضمن التبديل.
قال القرطبي: "و {سَمِعَهُ} يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان" (?).
قال أهل العلم: "عبر بالسمع عن العلم؛ لأن السمع من الحواس الظاهرة؛ والعلم من الإدراكات الباطنة - أي فمن بدله بعد أن يعلمه علم اليقين، كما لو سمعه بنفسه؛ ومعلوم أن العلم بالوصية لا يتوقف على السماع؛ قد يكون بالكتابة؛ وقد يكون بالمشافهة، والسماع؛ وقد يكون بشهادة الشهود؛ وما إلى ذلك" (?).
وفي عود الكناية في قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} [البقرة: 181]، ثلاثة أوجه (?):
أحدها: أن الكناية تعود إلى (الإيصاء)؛ لأن الوصيةَ في معنى الإيصاء، ودالة عليه، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] أي: وعظ.
والثاني: وقيل: أنها راجعة إلى الحكم والفرض، إذ كان تأويل {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}: فرض عليكم، فكأنه قال: فمن بدل فرض الله، فيدل {كُتِبَ} على الكَتْبِ فيُكْنى عنه.
والثالث: وقيل: الكناية تعود إلى معنى الوصية، وهو قول أو فعل.