بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه؛ وأما أن يقال هكذا على الإطلاق: «إن الاختلاف رحمة» فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي! ! ! فالصواب أن الاختلاف شر.

القرآن

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177]

التفسير:

ليس الخير عند الله- تعالى- في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله وصدَّق به معبودًا وحدَه لا شريك له، وآمن بيوم البعث والجزاء، وبالملائكة جميعًا، وبالكتب المنزلة كافة، وبجميع النبيين من غير تفريق، وأعطى المال تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي القربى، واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ، والمساكين الذين أرهقهم الفقر، والمسافرين المحتاجين الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم، والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم، وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى، وأقام الصلاة، وأدى الزكاة المفروضة، والذين يوفون بالعهود، ومن صبر في حال فقره ومرضه، وفي شدة القتال. أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، وأولئك هم الذين اتقَوا عقاب الله فتجنبوا معاصيه.

في سبب نزول الآية أقوال (?):

أحدها: أخرج الطبري عن قتادة: "كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت: {ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب} " (?).

الثاني: وروي عن قتادة أيضا: " ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية، وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه، وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق {ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر} الآية" (?).

والراجح أن الآية نزلت في اليهود والنصارى، لأنه أليق بسياق الآية إذ أن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم. والله تعالى أعلم.

قال ابن كثير: " إن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] " (?).

قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]، "أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق والمغرب" (?).

قال الزجاج: " المعنى: ليس البر كله في الصلاة" (?).

قال ابن عثيمين: " ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه جهة المشرق وجهة المشرق" (?).

قال الثعلبي: " والبر هنا الإيمان والتقوى" (?).

قال الراغب: " (البر) خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر، أي: التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تعالى تارة نحو: {إنه هو البر الرحيم} [الطور: 28]، وإلى العبد تارة، فيقال: بر العبد ربه، أي: توسع في طاعته، فمن الله تعالى الثواب، ومن العبد الطاعة. وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد" (?).

وفي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا} البقرة: 177]، وجهان من القراءة (?):

أحدهما: {لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا}. بنصب الراء. قرأ بها حَمْزَة وَحده.

والثاني: {لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا}. برفع الراؤ. قرأ بها الباقون.

وروى حَفْص عَن عَاصِم {لَيْسَ الْبر} مثل حَمْزَة، وروى هُبَيْرَة عَن حَفْص عَن عَاصِم الْوَجْهَيْنِ بِالرَّفْع وَالنّصب (?).

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، "أي: ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر" (?).

قال ابن عثيمين: " أي: وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله (?).

و(الإيمان) في اللغة: "بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه - أي صدقه؛ لكن (آمن به) مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام - مثل: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]- فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد (?).

وقوله - تعالى: {{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... } بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار، وتستجيب له النفوس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015