وفي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة: 177]، قراءتان (?):
الأولى: {ولكنِ البرُّ} بالرفع؛ وعلى هذا تكون {لكن} مهملة غير عاملة.
والثانية التي في المصحف: {ولكنَّ البرَّ} بتشديد نون {لكنَّ}، فتكون عاملة.
وإذا قيل: أن {البر} عمل؛ و {من آمن} عامل؛ فكيف يصح أن يكون العامل خبراً عن العمل؟ في هذا أوجه (?):
الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف؛ والتقدير: ولكن البر بر من آمن بالله.
ومنه قولهم: إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة، ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر (حاتم) إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر (الجود) بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع (جوده)، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره، كما قيل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [سورة يوسف: 82] والمعنى: أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي (?):
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! ... وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ
يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ عناق، كما يقال: " حسبت صياحي أخاك "، يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك (?).
الوجه الثاني: أن الآية على سبيل المبالغة؛ وليس فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: (رجل عدل) بمعنى أنه عادل.
الوجه الثالث: أن نجعل {البر} بمعنى البارّ؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البارَّ من آمن بالله. وهذا قول أي عبيدة (?)، وذكره الفراء (?).
قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، " أي: وأن يؤمن بالملائكة والكتب والرسل" (?).
و{والملائكة} "جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [البقرة: 30]؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21] " (?).