ثانيا: وقال الفراء: "أخبرني الكسائي، أخبرني قاضي اليمن: إن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال خصمه: ما أصبرك على الله ... ! " (?) أي ما أجرأك عليه (?).
ثالثا: وقال المورج: "فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار لأن هؤلاء كانوا علماء، فان من عاند النبي صلى الله عليه وسلم صار من أهل النار" (?). ونسبه ابن الجوزي إلى عكرمة والربيع (?).
رابعا: قال الكسائي وقطرب: " معناه ما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه ... كما تقول: ما أشبه سخاك بحاتم: أي بسخاء حاتم" (?).
خامسا: وقال مجاهد: "ما أعلمهم بأعمال أهل النار! " (?).
سادسا: وقيل: "ما أبقاهم في النار! كما يقال: ما أصبر فلانا على الضرب والحبس ... ! " (?).
وتفسير الآية على وجه التعجب: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة "، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك - على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [سورة عبس: 17]، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه (?).
والراجح -والله أعلم- أن (ما) تعجبية، والمعنى: شيء عظيم أصبرهم؛ أو ما أعظم صبرهم على النار، فلا شكّ بأن "انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين فى الآيتين السالفتين هو مثار العجب، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك: ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب" (?).
قال الشيخ ابن عثيمين: "وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان:
السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه؛ بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجب - وليس هو موصوفاً بالعجب؛ أو أنه من الله -؟
السؤال الثاني: أن قوله: {فما أصبرهم} يقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون؛ ولهذا يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]؛ وينادون: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] أي ليهلكنا؛ ومن قال هكذا فليس بصابر؟
والجواب عن السؤال الأول: - وهو أهو تعجب، أو تعجيب -: فقد اختلف فيه المفسرون؛ فمنهم من رأى أنه تعجب من الله عز وجل؛ لأنه المتكلم به هو الله؛ والكلام ينسب إلى من تكلم به؛ ولا مانع من ذلك لا عقلاً، ولا سمعاً - أي لا مانع يمنع من أن الله سبحانه وتعالى يعجب؛ وقد ثبت لله العجب بالكتاب، والسنة؛ فقال الله تعالى في القرآن: {بل عجبتُ ويسخرون} [الصافات: 12] بضم التاء؛ وهذه القراءة سبعية ثابتة عن