والثاني: وقيل: ذلك مجاز.
والظاهر هو القول الأول. والله أعلم.
قال أبو حيان: " وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم: معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى: أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة: بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله: {وَلَاكِن لا تَشْعُرُونَ} معناه: لا تشعرون بكيفية حياتهم، ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه: ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ}، وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، وكما ترى النائم على هيئته، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به" (?).
فإن قال قائل: كيف لا نقول أموات وقد ماتوا؟
فالجواب: أن المراد هنا: لا تقولوا: أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد؛ فهذا موجود؛ ولولا أن أرواحهم فارقت أجسادهم لما دفناهم، ولكانوا باقين يأكلون، ويشربون؛ ولكن الموت المطلق لم يقع منهم بدليل الإضراب الإبطالي في قوله تعالى: {بل أحياء} يعني: بل هم أحياء .. والمراد: أحياء عند ربهم" (?).
قال ابن عاشور: "وإنما قال: (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها (?)، والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها" (?).
واختلف في مستقر أرواح الشهداء على أقوال (?):
أحدها: قيل: قبورهم يرزقون فيها.
والثاني: وقيل: في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها، قاله أبو بشار السلمي (?).
الثالث: أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة المنتهى، قاله قتادة (?).
الرابع: وقيل: يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها، قاله مجاهد (?).