والقول الأول أولى بالصواب، وذلك للوجوه الآتية (?):
أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة: 145]، والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.
وثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
وفي سبب تخصيص ذكر الأبناء في المعرفة دون الأنفس في قوله تعالى {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، قال الرازي: " لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق" (?).
وقال القرطبي: "وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبدالله بن سلام: أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه" (?).
قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146]، "أي وإن جماعة منهم، ليخفون الحق ولا يعلنونه" (?).
قال مجاهد: " يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل" (?).
قال الثعلبي: " يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة" (?).
قال الزجاج: " أي يكتمون صفته، ومن لا يعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به" (?).
قال البيضاوي: " تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن" (?).
قال ابن عطية: " والفريق الجماعة، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم" (?).
وفي الحق الذي كتموه، قولان:
أحدهما: أنه النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- يكتمه اليهود والنصارى. قاله مجاهد (?)، وقتادة (?)، وخصيف.
ولهذا ذكر الله في سورة آل عمران أن بعضهم يقول لبعض: كيف تبينون الهدى لمحمد، وأصحابه؟ ! إذا بينتموه يحاجوكم به عند الله أفلا تعقلون! فهم يتواصون بالكتمان - والعياذ بالله (?).
الثاني: وقيل المراد: استقبال الكعبة (?)، قاله الربيع (?)، والسدي (?)، ومقاتل (?).