وثانيها: معناه ليحصل المعدوم فيصير موجودا، فقوله: {إلا لنعلم} معناه: إلا لنعلمه موجودا، فإن قيل: فهذا يقتضي حدوث العلم، قلنا: اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور.

وثالثها: إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون، فسمي التمييز علما، لأنه أحد فوائد العلم وثمراته.

ورابعها: {إلا لنعلم} معناه: إلا لنرى، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله: {ألم تر كيف} [الفجر: 6] [الفيل: 1] [إبراهيم: 19] ورأيت، وعلمت، وشهدت، ألفاظ متعاقبة.

وخامسها: ما ذهب إليه الفراء: وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، ومثاله أن جاهلا وعاقلا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه: لنعلم أينا الجاهل، فكذلك قوله: {إلا لنعلم} إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام: الاستمالة والرفق في الخطاب، كقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى} (سبأ: 24) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقا للخطاب ورفقا بالمخاطب، فكذا قوله: {إلا لنعلم}.

وسادسها: نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك.

وسابعها: أن العلم صلة زائدة، فقوله؛ {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} معناه: إلا ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.

وفي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وجوه (?):

الأول: أن يكون هذا الكلام بيانا للحكمة في جعل القبلة، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة فنقول: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} الجهة: {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أولا: يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء.

الثاني: يجوز أن يكون قوله: {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} لسانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة، يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه.

الثالث: وقد ذكره أبو مسلم فقال: "لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها، لأنه قد يقال: كنت بمعنى صرت كقوله تعالى: {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110]، وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى: {وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 158]، فلا يمتنع أن يراد بقوله: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا" (?).

واختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها (?):

أحدهما: أنها حصلت بسبب تعيين القبلة، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم.

الثاني: أن هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل، فإنهم قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه، روى القفال عن ابن جريح أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم، وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا، وقال السدي: لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس

طور بواسطة نورين ميديا © 2015