قال القرطبي: "وهو تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى، فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى" (?).
قال ابن عثيمين: " ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم من الله عزّ وجلّ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى قال ذلك إلزاماً للخصم حتى يتبين بطلان ما ادعاه؛ وهو كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]؛ ومن المعلوم أن الله خير مما يشركون؛ لكن من أجل إفحام الخصم، وإلزامه بما هو ظاهر لا إشكال فيه" (?).
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، "يعني: لا أحد أظلم في كتمان الشهادة ممن كتم شهادة عنده من الله" (?).
قال ابن عثيمين: أي: " وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية" (?).
قال الزمخشري: "وفيه تعريض بكتمانهم شهادة اللَّه لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته" (?).
قال الربيع: "أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان" (?). وروي عن مجاهد (?)، والحسن (?)، نحو ذلك.
وقال قتادة: "أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل" (?).
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، ثلاثة أوجه (?):
أحدها: أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك: ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب، علمنا أنه ليس الأمر كذلك.
وثانيها: ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله: {من الله} تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال: ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها.
وثالثها: أن يكون: (من) في قوله: (مِنَ اللَّهِ) صلة الشهادة والمعنى: ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك، أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك.