وصلت المعلومات كاملة إلى الملك، ووصل التقرير تاماً من أن الغلام هو الذي يقول للناس: ربي وربك الله، وإني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فمصدر الدعوة العلنية في الناس عرف فأحضر، فبدأ الملك بوسيلة الترغيب والاحتواء، قبل وسيلة الترهيب والتعذيب والفتنة؛ لأن وسيلة الترغيب والاحتواء أنفع في إبطال الحق، وأجدر في إزهاقه، وأيسر في ألا يكون هناك بعد ذلك مقاومة أو قبول للغلام لو قبل هذا الترغيب وهذا الاحتواء، فأتي بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، الأكمه هو الذي ولد أعمى، والبرص مرض جلدي معروف لا علاج له إلى وقتنا هذا، فبدأ أولاً يقول له: يا بني! أنت أبني، وأنت حبيبي، وأنت تبعي أنا، وهو يعرف ما يقوله للناس، لكنه ينظر أيقبل هذا الغلام مثل هذا الأمر؟ ولا مانع لديه أن يقال: هذا ساحر الملك، وأن يفعل الغلام بعد هذا ما يفعل، وليدع إلى ما يدعو إليه، طالما كان تحت غطاء الملك وإذنه، وباسم سحر الملك، فإنه يقبل بذلك، فلم يكن الملك غبياً، ولم يكن جاهلاً، أو كان يظن أن الغلام كان يقول: هذا من سحر الساحر؟ لا، بل كان يجزم بأن هذا الغلام يقول: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، ولكن كان يريد أن يحتويه.
ولذلك نقول: هذا الأمر لابد أن ينتبه له الدعاة إلى الله، وألا يقبلوا ذلك الاحتواء، ولا هذا الثوب الذي يكون مأذوناً لهم في لبسه، ويسمح لهم بالدعوة إليه من خلاله، طالما كانوا تحت توقيعات وتوجيهات الملك، وبإذن الملك ومن سحر الملك، ولو أن الغلام سمى ما يفعله سحر الملك لتركه ذلك الملك يفعل ما يشاء، ويكون عوناً له ومرغباً في اتباعه، ولكن سوف تفقد دعوته حقيقتها، وسوف تفقد تميزها، وسوف تفقد براءتها من الباطل، ويكون هذا الستار في الحقيقة قاضياً على الدعوة ومفسداً لها من أصلها.
ولذلك تنبه الغلام وقال للملك قولته التي يكررها: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فقد كان واضحاً لا يقبل مداراة ولا موالاة لذلك الملك، ولا يقبل التبعية لذلك الملك، ولذلك لا يقبل أن يقول: أنا من جنود الملك حتى لو تركه يقول ما يقول، وكم من الناس يسمح لهم بأن يقولوا أشياء كثيرة من الحق لكن بشرط أن يكون ذلك تحت توجيهات الملك، وبشرط أن يكون ذلك بإذن الملك وأمر الملك، فلابد أن تعلم أن دعوة الحق هي بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الكفرة في أن يدعو إلى الله عز وجل.