أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، وهذا دليل على أنه إذا أسلم المرء وآمن ولم يكن في عمله لدى بعض الظلمة أو الطغاة محرم، ولم يكن إعانة على الظلم جاز له أن يستمر فيه، وأما المجالسة إذا كانت لغرض الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلا مانع أن يكون الإنسان في وظيفته ويستغلها في الدعوة إلى الله، كما استغل هذا الغلام حاجة الناس إليه لكي يدعوهم إلى الله عز وجل.
فهذا الجليس جلس عند الملك فرآه مبصراً، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فجليس الملك تغير تغيراً عظيماً جداً، وبالتأكيد هو يعلم عقيدة الملك، ويعلم ما يقوله الملك للناس وخصوصاً جلسائه من أنه ربهم ولا رب لهم غيره، ومع ذلك يواجهه بهذه المواجهة، فالإيمان يغير تغييراً عظيماً في النفوس.
فهذا الجليس كان قبل ذلك يقول: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وكل هدفه أن يشفى من عمى البصر، وهو أعمى القلب، ولا يشعر بأن عمى القلب أغلظ وأخطر، وبعد ذلك تغير حتى صار يجابه الملك بهذه الشجاعة وهذه القوة ويقول: ربي وربك الله، فكأنه استغل الفرصة لكي يجهر بالدعوة في مثل هذا المجلس، ولكي يقول كلمة الحق في مثل هذا المجلس، ولم يعد يهتم بالقوة والمادة والمال، وإنما صار اهتمامه أن يبلغ دعوة الحق، وأن يقول للملك: ربي وربك الله، والملك معروف بالبطش والتنكيل والتعذيب وأنواع العقوبات المختلفة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وكان لا يعذبه بنفسه وإنما بزبانيته وأعوانه الظلمة أمثاله.