قال تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) أبعد وضل من استدل بهذه الآية على عدم وجوب الجهاد، هذا كلام باطل لا تدل عليه الآية بوجه من الوجوه، وكما ذكرنا هذا كان في أول الإسلام، ليس معنى ذلك أن الإسلام سوف يظل هكذا على الدوام، لا يفرض الحق بالقوة التي أيده الله عز وجل بها، بل لابد بعد مرحلة معينة أن يفرض الحق إذا وجدت القوة التي تفرضه، وليس معنى ذلك أننا نكره الناس على الدين، بل يظل هذا الأمر موجوداً، ولكن يمنع الكفر والطغيان من أن يفرض نفسه على الناس جيلاً بعد جيل، ويكون حاجزاً بين الناس وبين الإيمان.
إذاً: فوظيفة المسلمين في الجهاد أن يزيلوا الشبه، وأن يمنعوا الباطل من أن يكون متسلطاً، الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فإذا ظهر أمر الله وظهر الحق فيختاره من اختار، ويظل الأمر بعد ذلك إلى ما يختاره الإنسان لنفسه، فلن يكره أحد على الإسلام، إلا من ورد الإكراه في حقه لارتكابه جريمة الخيانة العظمى وهي الردة، فالمرتدون هم الذين يُكرَهون على الإسلام فقط، وأما من سواهم فالصحيح أن أحداً من أهل الملل لا يكره على الدخول في الإسلام، على خلاف معتبر في غير أهل الكتاب والمجوس، بمعنى أن هناك من يرى إكراه المشركين دون إكراه اليهود والنصارى والمجوس، لورود النص في أنهم لا يكرهون على الإسلام لإقرارهم بالجزية.
والصحيح أن الكل يقر بالجزية، إلا المرتدين فإنهم بإجماع أهل العلم يجب قتالهم وقتل الواحد منهم المقدور عليه إذا تمكن المسلمون من ذلك.
والخلاف في المرتدة ضعيف أيضاً؛ فإن المرتدة تقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور العلماء.
والمقصود أن هذه الآية ليست للتخيير، كما يقول ذلك من ضل وأضل، ويظن أن الأمر مرده إلى إرادة الناس، ومن الخطأ كذلك القول بأن الآية تدل على عدم الجهاد، ولكن الآية كما ذكرنا: ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) الأمر هنا ((فَلْيَكْفُرْ)) للتهديد والوعيد؛ لأنه أعقبه بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم، والحق الذي لا مرية فيه ولا شك، ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا)) أي: أرصدنا ((لِلظَّالِمِينَ)) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه، ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) أي: سورها.
روى الإمام أحمد بسند فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربعة جدر، مسافة كل جدار مسافة أربعين سنة).
قال ابن عباس: ((أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) قال: حائط من نار.
وروى ابن جرير عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية: ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) [الكهف:29] ثم قال: والله! لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً).