إن الدعوة إلى الله لا بد أن تتميز في سرها وعلانيتها، وفي جندها وقيادتها، وفي مبادئها وغاياتها، وفي وسائلها ومنهجها عن كل أحزاب الباطل، وهي لا بد أن ترفض هذا الطعم الخبيث، والشرف المخادع الذي يضعه لها أعداؤها حين يقولون للدعاة: إن أردتم أن تعملوا فلا مانع ما دام عملكم تحت توجيهات الملك وبأمره، وأن تضعوا شعاراته، وتدخلوا في أحزابه، وإن كنا نعلم أن دعوتكم مخالفة لهذا، وأنكم تدعون إلى الله لا إلى سحر الملك، ولكن هذا هو الثمن لاستمرار دعوتكم.
فما أخطر هذا المنهج الذي يمارسه المنافقون والكافرون في كل زمان لاحتواء الدعوة تحت سلطانهم، فهم لا يقبلون الوجود لهذه الدعوة إلا تحت راياتهم وتجمعاتهم، ومن خلال أحزابهم، وهم يعلمون جيداً أن هؤلاء الدعاة هم الدعاة، وأنهم لن يغيروا حقيقتهم، ولكنهم قبلوهم ضمن أحزاب الملك، وفي ثيابه، وتحت شعاراته؛ وذلك لعلمهم أن هذا في الحقيقة يدعم شرعية وجود الملك، ويجعل منكرهم هو المعروف الذي يتحاكم إليه، ويجعل قيادتهم الباطلة للمجتمع أمراًَ شرعياً عند أتباع الدعوة وليس فقط أمراً واقعاً يسعى الناس إلى تغييره، ويجعل شعاراتهم المفروضة في شرع الله حقاً، والباطل هو ما يخالفه والعياذ بالله، ويجعل هذه الشعارات الباطلة مرادفة لشعارات الإيمان والتوحيد، وأن الدين هو حياة الناس كلها لا يفصل عنها ولا عن جزء من أجزائها، كما أنه هو في آخرتهم عند الله هو الأصل في كل شيء.
وكذلك أن الولاء لله والحب فيه ولأجله، وأن الرابطة الدينية الإسلامية هي رابطة المجتمع لا مجرد وحدة الوطن أو القوم أو القبيلة، وأن الإسلام وحده هو الحق، وأن ما سواه من الملل باطل وكفر وعذاب في الدنيا والآخرة.
فهذه الشعارات إذا وضعت بجوار شعارات الباطل بدلاً من رايات الحق فلن تكون هناك دعوة إلى الله عز وجل، وهذه المعاني التي ذكرنا من معاني الإيمان والتوحيد لا تقوم الدعوة بدونها، ولا تكون أبداً دعوة ربانية إذا فقدتها، وسوف تضمحل تماماً عند قبول هذا الاحتواء، وعند رضا أصحاب الدعوة بإعلان الشعارات الملكية السحرية، وأن يقبل الغلام أنه يعمل بسحر الملك، فإذا رضي ذلك ثمناً لسلامة الدعاة واستمرار عملهم فإن ذلك يؤدي إلى اضمحلال الدعوة بلا شك.
وما أخطر أن يكون الدعاة إلى الله هم الذين يقولون للناس: اختاروا قيادة هذا الملك وكونوا تحت طاعته حتى ولو قالوا لهم بعد ذلك أي شيء، فحين يعلمون أن دعوتهم تحولت إلى توطيد سلطان الملك بطريقة أو بأخرى، وحين يعملون لذلك تكون دعوتهم قد فقدت ربانيتها، وإن ظنوا أنهم يحققون لها السلامة والاستمرار، فلا بد للدعاة أن يعلموا أن استمرار دعوتهم بالله لا بالناس، وأن الله عز وجل خير حافظاً وهو أرحم الرحمين، وأن علينا أن نقولها واضحة كما قالها الغلام للملك رافضاً محاولة الاحتواء الخبيث: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى.
ولا بد أن نقول للباطل: لا نعمل تحت رايتك، ولا نرضى بثيابك، ولا نقبل قيادتك، ولا نعترف برياستك، وإن كان واقع الابتلاء يفرضها علينا فهو أمر كوني لا شرعي، والواجب علينا أن نلتزم بالشرع، ونفوض أمر الكون لله يفعل فيه ما يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وليعلم الدعاة أن دعوتهم تستمد شرعيتها ووجودها من إذن الله تعالى وأمره بالدعوة، لا من إذن الناس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، والدعاة والعلماء هم ورثة الأنبياء بما عندهم من العلم والعمل، ودعوتهم لا تحتاج إلى إذن من الطواغيت ولا إلى شرعيتهم المزعومة، فإنها شرعية الظلم والكفر والعدوان، وشرعة الغاب التي ابتدعوها، ثم هم لا يحترمونها ولا يرعونها حق رعايتها.
إن الولاء لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والانتماء لدين الله دونما سواه أمر أساسي في الدعوة إلى الله، والبراءة من الشرك والمشركين من أوجب الواجبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1])) [الممتحنة:1].
وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فهذه المعاني كلها تفقد وتضيع أو تبهت وتضمحل في نفوس الأتباع إذا قبل أصحاب الدعوة القيادة الملكية، والسحر الملكي الذي يريد الملك أن يجعله شعاراً يعمل الغلام تحته، فإذا لم يكتفوا بالشرعية الإلهية والقيادة النبوية فإنها تضمحل معاني الولاء والبراء، ومن ثم تتحول الدعوة بعد جيل أو أجيال إلى صورة من صور الباطل، لكن أصحابها يحملون اسم الدين، ويتصورن أنفسهم دعاة الحق وحماة الإسلام، فليحذر دعاة الإسلام من شرك النفاق وهيئاته وأحزابه، ولنحافظ على صبغة دعوتنا الربانية: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
لقد رفض الغلام أن يسمى ما يفعله سحراً، وأبى إلا أن يجابه الملك؛ لأن دعوته هي دعوة التوحيد الخالص، فبمقولته العظيمة: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) فشلت محاولة الاحتواء وإلباس الحق ملابس الجاهلية، فانكشف الملك على حقيقته، ولجأ إلى الأسلوب المعتاد من البطش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام ابنه الذي يتلطف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع التعذيب؛ ليعترف بإخوانه في هذا التنظيم السري الذي يجابه مملكة الملك، وليعترف بالذي أراد أن يقلب نظام الربوبية في هذا المجتمع، فالملك ليس رباً وإنما الله عز وجل هو الرب، ولنعلم أن الباطل لا يستحيي من تناقضه، فهذا الذي تراه في نعومة حديثه وإظهار مودته ومحبته للدعوة ومباركته لها سوف ينقض عليها هو شخصياً بأنواع التنكيل إذا ووجه بالمفارقة والمفاصلة.
وهذا الموقف لا يحتمل غير الوضوح والبيان، فعن الدعاة تؤخذ الحقيقة، ومن أفواههم وكلماتهم يعرف الناس الدين، فليحذر كل داع إلى الله أن يكذب على الله، وأن يدخل في دينه -وهو المتحدث باسمه- وفي دعوته ما ليس منه، بل هو من دين الشيطان وملة أتباعه.