الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الأخدود قال: (فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).
يعني: لما عذب الملك جليسه حتى دل على الغلام، وتيقن الملك أن الغلام من وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته، وهو أن الغلام يدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وإلى إنكار ربوبية الملك، وعلم جيداً أن الغلام لا يقول للناس: إني أفعل ذلك بالسحر الذي أرسله الملك لكي يتعلمه من الساحر، فبدأ الملك بمحاولة خبيثة في احتواء هذه الدعوة، فليس عنده مانع أن يدعو الغلام إلى ما يدعو إليه، لكن لا بد أن يكون ذلك تحت عباءة الملك، ويكون ذلك بذكر سحر الملك وتوجيهاته، أي: لا بأس أن يفعل ما يريد بشرط أن يلبس ثوب الملك، فلم يبدأ الملك بالبطش، مع أن أسلوبه كان واضحاً جداً مع جليس الملك، وأسلوبه أيضاً كان واضحاً جداً مع الراهب ومع الغلام نفسه في مرحلة لاحقة، لكن هذه محاولة خطيرة يبدؤها الطغاة دائماً، فلا بد أن ينتبه لها كل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
إن بطشه بالغلام الذي أحبه الناس وعرفوا إحسانه إليهم، فهو الذي قتل الدابة، وهو الذي كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فلو أنه بطش به من أول الأمر لازدادت محبته في القلوب، ولجعله بطلاً أو شهيداً، ويصبح موته وقوداً دافعاً لاستمرار دعوته، فلا بد من محاولة الاستمالة أولاً فقال: (أي بني!) يعني: يا ابني الصغير! وهذه اللغة ليست لغته التي يستعملها مع الناس، ولكنها محاولة الاستمالة ومحاولة الترغيب، فأنت ابني الصغير الذي أحبه جداً، والذي أشفق عليه جداً، والذي أعده للمنازل العالية، فالنداء بالبنوة أول محاولات الاستمالة والتلطف، فهو يقول له: أنت ابني وأنا الذي توليت تربيتك.
ثم يقول: (قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) يريد أن يقول له: لا مانع عندي من استمرارك فيما تفعل بشرط أن تقول للناس: إن هذا سحر تعلمته في مدرسة الملك، وتحت إشرافه، وبرعايته وبتوجيهاته، والملك يقول له ذلك وهو على يقين من أن الغلام هو الذي قال لجليس الملك: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فربي وربك الله.
فهذه المحاولة الخبيثة من الملك إنما هي لطمس ضوء الدعوة ونورها إذا قبل أصحابها أن يلبسوا ثوب الباطل، ويعملوا تحت رايته، ويصبغوا دعوتهم بصبغة الملك وحاشيته، تلك الصبغة التي يسميها الملك وحاشيته الصبغة الشرعية.