عدم فقدان ولاية الله للدعاة بتسليط العدو عليهم، وحكم اعترافهم بإخوانهم عند الإكراه

لا يظنن أحد أن تسليط العدو على الدعاة بأنواع الأذى هو من فقدان ولاية الله، أو علامة سخطه، بل هذا الغلام ولي من أولياء الله تعالى بنص السنة، ومع ذلك سلط الله عليه عدوه حتى وصل التعذيب به إلى درجة أن اعترف بأستاذه ومعلمه الذي قال له يوماً: (فإن ابتليت فلا تدل عليّ)، لكن عجز الغلام وأكره على أن يخبر بمعلمه، وهو في ذلك معذور لا إثم عليه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، وليس الاعتراف بإخوانه في الدين عند تعرضه لمثل هذا النوع من العذاب -وإن كان يعلم أنه يصيبهم الأذى- بداخل فيما لا يجوز عند الإكراه من أذية مسلم أو معصوم؛ فإن ما أجمع عليه العلماء من أن الإكراه لا يبيح قتل مسلم أو معصوم أو انتهاك حرمته كما نقله القرطبي وغيره إنما هو في مباشرة ذلك، لا في مجرد الإخبار عن حقيقة معتقد أخيه ودينه وعمله الذي قد يكون سبباً لقتله عند الكفار الظالمين.

ولنتأمل في حكمة الله عز وجل الذي استجاب دعوة الغلام في كل ما سبق، فقد كان الغلام مستجاب الدعوة في قتل الدابة، وفي شفاء الأمراض، ومع ذلك قدر الله عليه هذا البلاء دون أن يصرفه عنه، فإما أنه صرفه عن الدعاء أصلاً برفع هذا العذاب، فلم يجعل الغلام يدعو؛ ليتم الابتلاء، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، ويكمل التمحيص، ويعرف الناس القدوة الصالحة في الثبات على الدين، وليس في الإخبار عن الراهب نقص في الدين؛ لأن ذلك من الرخص كما ذكرنا، وإن كان الأفضل الصبر على العزيمة، أو إن الله عز وجل لم يستجب دعوة الغلام في الوقت عندما دعاه؛ حتى نعلم أنه ليس لأحد مع الله عز وجل في الأمر شيء، كما قال أفضل الخلق وخليل الله وسيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، عندما جرح في وجهه وكسرت رباعيته يوم أحد: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته! فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]).

وكما دعا على أقوام من المشركين بأعيانهم فلم يستجب له فيهم صلى الله عليه وسلم، وجعل من أدلة التوحيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، والذي يظهر من القصة أن الغلام صرف عن الدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر في الحديث أن الغلام دعا ولم يستجب له، وإنما ذلك كان -والله أعلى وأعلم- صرفاً له عن أن يدعو لتفريج الكرب في هذه اللحظة؛ لكي يظهر أثر الثبات على الدين، ولكي يستفيد الدعاة إلى الله عز وجل، وأيضاً لبيان أن تسلط العدو عليهم ليس معناه فقد الولاية من الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015