الدراسات التاريخية والجغرافية وحيث برز في هذا العهد عدد كبير من المؤرخين الذين تنوعت اهتماماتهم في مختلف صور الكتابات التاريخية، وقد استخدم التاريخ في تقوية الجانب المعنوى لحركة المقاومة ضد الصليبيين، فقد وجد المتخصصون بهذا الفرع من العلوم في الجهاد مادة زخرت بها مؤلفاتهم سواء عن طريق الكتابات التاريخية التي تؤرخ للمعارك بين المسلمين والصليبيين أوفى الكتابة في فضائل المدن وتراجم الشخصيات البارزة في مجال الجهاد ويعد الحافظ علي بن الحسن المعروف ابن عساكر من أكبر مؤرخي العهد الزنكي وكذلك العماد الأصفهاني وابن الأثير وابن القلانسي.
106. برزت شخصية ابن عساكر إلى جانب السلطان نور الدين محمود في مناصرته على حركة المقاومة وتوحيد الجبهة الإسلامية وطلب نور الدين من ابن عساكر أن يجمع له أربعين حديثاً في الجهاد تكون واضحة المتن متصلة الإسناد تحريضاً للمجاهدين على القتال، فسارع ابن عساكر إلى امتثال ما طلبه نور الدين وتّم تعميم تلك الأحاديث على القادة والجنود وقد
استفاد نور الدين من جهود ابن عساكر في تعبئة الأمة فكرياً ودينياً.
107. من الملاحظات المهمة في دراستي لفترة الحروب الصليبية أن انتصارات نور الدين وصلاح الدين ساهمت فيها عوامل متعددة منها على مستوى الخلافة نفسها ومنها على المستوى الشعبي، فقد أخذت مؤسسة الخلافة تسترج صلاحياتها وتقوى على ما كانت عليه في العهد السلجوقي وكذلك مؤسسة الوزارة العباسية خصوصاً في عهد يحي بن هيبرة، كما كان لعبد القادر الجيلاني جهود معتبرة في الدعوة الشعبية والإصلاح العام، فقد كانت حركته الشعبية معاصرة لعماد الدين ونور الدين وتعتبر حركة عبد القادر الجيلاني من الروافد المهمة في حركة الجهاد والمقاومة التي قادها نور الدين وخصوصاً في القطاع الشعبي العريض وفي عاصمة الخلافة العباسية بغداد، فقد استطاع التأثير في المجتمع بدعوته ومواعظه وتزكيته.
108. استفاد عبد القادر الجيلاني من جهود وتراث الغزالي وحّول تلك التعاليم إلى مناهج مبسطة يفهمها العامّة وطلاب العلم والعلماء، فقد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكاملاً يهدف إعداد الطلبة والمريدين علمياً وروحياً واجتماعياً ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد توفر لهذا المنهاج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر حيث كانت تجري التطبيقات التربوية والدروس والممارسات العملية ويقيم الطلبة المريدون.
109. بين الشيخ عبد القادر الجيلاني عقيدته بوضوح وكان كثيراً ما يردد في مجالس وعظه وحلقات دروسه عبارة: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة، وكان يعرض العقيدة بأسلوب بليغ سهل العبارة.
110. تنتسب الطريقة القادرية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يعتبر المؤسس الأول لها خصوصاً بشكلها الجماعي والمنظم القائم على جميع المريدين وربطهم بمشايخ الطريقة لتأديبهم وتربيتهم حيث كان التصوف في السابق يقوم على أساس فردي لا أثر له للتجمع فيه ولم يظهر في شكل منظم تحت طريقه واحدة إلا في عهد الشيخ عبد القدر الجيلاني والمتتبع لظهور الطرق الأخرى يرى أنها جميعها إنما ظهرت بعد الشيخ عبد القادر الجيلاني.
111. أكد الشيخة عبد القادر في وصاياه وتوجيهاته، على أهمية التمسك بالكتاب والسنة، والتركيز على الاهتمام بالجوانب العملية والابتعاد عن الأفكار والفلسفات سائدة في عصره، وتأكيده على وجوب تعظيم أوامر الله سبحانه وامتثالها.
112. اعتمد الشيخ عبد القادر في حركته الإصلاحية التعليم المنظم والتربية الروحية المنظمة، واهتم بالإعداد الديني والثقافي والروحي، والاجتماعي، وركز على الوعظ وانتقد علماء السوء، والحكام الظلمة وانتقد في وعظه ومجالسه الأخلاق الاجتماعية السلبية، ودعا إلى إنصاف الفقراء والعامة، وتصدى للتطرف الشيعي الرافضي وللتيارات الفكرية المنحرفة، وبذل جهداً في إصلاح التصوف وأعادته إلى مفهوم الزهد وتنقيته مما طرأ عليه وقام بحركة واسعة للتنسيق بين الطرق الصوفية بهدف توحيد الجهود وتنظيم التعاون ونجح إلى حد كبير وكان أول الاجتماعات التي استهدفت توحيد القيادة عقد في رباط المدرسة القادرية الكائن في منطقة الحلة في بغداد حيث حضر الاجتماع ما يزيد على الخمسين من شيوخ العراق وخارجه وكان الاجتماع الثاني في موسم الحج حيث حضره شيوخ الطرق الصوفية من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، حضر هذا اللقاء الشيخ عبد القادر الكيلاني من العراق، والشيخ عثمان بن مرزوق القرشي الذي شاعت شهرته وانتهت إليه المشيخة في مصر، والشيخ أبو مدين المغربي الذي يعود إليه نشر الزهد في المغرب في ذلك العصر كذلك حضر الاجتماع شيوخ من اليمن حيث أرسل معهم الشيخ عبد القادر رسولاً ينظم أمورهم. وفي نفس الوقت جرت اتصالات بين الشيخ عبد القادر والشيخ أرسلان الدمشقي الذي انتهت إليه تربية المريدين ورئاسة المشايخ في الشام ثم تلا ذلك اجتماع موسع حضره جمع كبير من الشيوخ يمثلون مدارس الاصلاح في مختلف أقطار العالم الإسلامي، واستطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني أن ينقل التصوف السني إلى حركة منظمة في العراق وعلى مستوى العالم الإسلامي، ولقد ترتب على هذه اللقاءات المستمرة للمشايخ والعلماء آثاراً هامة ساهمت في نهضة الأمة وتوسيع جبهة المقاومة ضد الصليبيين.
113. تدل الأخبار المتعلقة بالمدارس الإصلاحية وخصوصاً مدرسة الشيخ عبد القادر أنها لعبت دوراً رئيسياً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية وتدل الشواهد التاريخية على أن الطلاب الشاميين كانوا يشكلون مجموعة كبيرة بين الطلاب الذين يفدون من خارج العراق للدراسة في مدرسة عبد القادر، وقد قامت المدرسة القادرية بدور هام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فكانت تستقدمهم وتوفر لهم الإقامة والتعليم، ثم تعيدهم إلى مناطق الثغور والمرابطة، ولقد كان هؤلاء الطلاب يعرفون باسم المقادسة، نسبة إلى مدينة القدس أو بيت المقدس، ويمكن القول أن أرسال هذه البعوث الطلابية إلى بغداد كان سببه أمران: الأول: حاجة الدولة الزنكية إلى نمط معين من القيادات والموظفين والإداريين: والثاني: ما اشتهرت به مدرسة عبد القادر آنذاك من تجسيد لسياسات
الإصلاح، ولإبد أن إقرار إرسال هذه البعوث نتج عن دراسة ومشورة، فقد توثقت الصلات بين الشيخ عبد القادر ونور الدين فكان نور الدين يرسل أبناء المقادسة النازحين من القدس إلى بغداد ليدرسوا في مدرسة الشيخ عبد القادر ثم يعودوا إلى مناطق الثغور قادة ودعاة ومرشدين، كما كان نور الدين يستقدم مشاهير العلماء الذين تخرجوا من المدرسة القادرية، وهاجر بعض العلماء الذين تخرجوا من المدرسة القادرية إلى دولة نور الدين زنكي وشاركوا في الجهاد العسكرية، وميادين السياسية، ومن أشهر هؤلاء زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الإنصاري الدمشقي الذي أصبح فيما بعد من رجال صلاح الدين وكبار مستشاريه.
114. عاصر نور الدين محمود انتعاش مؤسسة الخلافة العباسية إبان المقتفي لأمر 530هـ - 555هـ والمستنجد بالله 555هـ - 566هـ/ والمستضيء بالله 566 - 575هـ وقد اتسم حكمهم بالحرص الشديد على استعادة التوازن السياسي مع السلاجقة في العراق وإيران على نحو خاص، ومن بعد ذلك كافة البقاع الإسلامية الأخرى، وقد ساعد على تمتع الخلافة العباسية بالنفوذ في هذه المرحلة وجود الوزير الصالح العالم الرباني عون الدين بن هبيرة وتعتبر قوة مؤسسة الخلافة وانتزاع صلاحياتها من السلاجقة في هذه الفترة من أسباب النهوض وقد ساهمت مؤسسة الخلافة في دعم نور الدين محمود وحركة المقاومة للغزو الصليبي دينياً، واقتصادياً وسياسياً .. إلخ متوازيا ذلك الدعم، مع الضخ الكبير لمعاني الإسلام والإيمان والإحسان في قطاعات جماهير الأمة في عاصمة الدولة العباسية وغيرها وكان من أبرز قيادات