والعشرين؛ ونقله الله من دسته العالي إلى أعلى عليين. ومات بموته رجاء
الرجال، واظلم بغروب شمسه فضاء الافضال. وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي. وانقطعت الارزاق، وادلهت الآفاق. وخاب الراجون، وغاب اللاجون. وخاف الآمن، وخاب الآمل، وقنط السائل، وشحط النتئل. وطردت الضيوف، ونكر المعروف.
ودفن بالقلعة في داره، وفجع الزمان بأنواره. وعدمت الأيام صباحها والآمال نجاحها، ودفن معه الكرم، وغلب بعد وجوده وجوده العدم والعدم.
وبقيت تلك الأيام لا افرق بين الدجى والضحى، ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا. وحالت حالي، وزال ادلالي وزاد بلبالي. وبطل حقي، واتسع خرقي. وتنازل جاهي، وتنازق اشباهي، واعضلت أدواء الواهي. وبقيت المعارف متنكرة، والمطالع مكفهرة. والعيون شاخصة، والظلال قالصة، والأيدي يابسة، والوجوه عابسة، وعادت أبكار خواطري عانسة، ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة.
وبقى باب كل مرتجى مرتجا، ومنهج كل معروف منهجا. وظن الغنى عنى، وأخلف في ضن الاخلاف بي ظني. حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه، وقام بالأمر بعزم تأنيه، وحزم تأتيه، وعز تأبيه. فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري، وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب درى، ونضارة حلى درى. فكتبت له، وحليت من الملك عطله. ووشيت الكتب ووسعتها، وجليت الرتب ووسعتها. وهززت اليراعة، واغزرت البراعة وهجرت الجماعة، ولزمت القناعة.
خلف السلطان صلاح الدين - رحمه الله - سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة صغيرة، وأبقى له مآثره أثيرة، ومحاسن كثيرة، ولم يخلف في خزانته سوى دينار واحدة وستة وثلاثين درهما، فإنه كان بإخراج ما يدخل من الأموال في المكرمات
والغرامات مغرما. وكان يجود بالمال قبل الحصول، ويقطعه عن خزانته بالحوالات عن الوصول. فإذا عرف بوصول حمل وقع عليه بأضعافه، وخص الآحاد من ذوي الغناء في الجهاد باللآفه. ولا جبه أحدا بالرد إذا سأله، بل يلطف له كأنه استمهله. فإنه يقول: ما عندنا شيء الساعة ومفهومه: إنه يعطى وإن كان يبطئ، وأنه سصيبه بالنوال ولا يخطي.
وكان ولى عهده بالشام الملك الأفضل نور الدين علي، وأنه كاسمه سام علي، ونور فضله كسمته جلى، وهو الذي حضر وفاته، وفاز بملكه فما يقال حضر وفاته. وقام بسنة العزاء، وفرض الاقتداء بأبيه في إيلاء لآلاء، وإدناء الأولياء. وخلع على الأماثل والأمراء، والأفاضل والعلماء. وكان لباب رسل ووفود وملوك، ورجال لهم في مسالك الرجاء سلوك. فخابوا وغابوا، وذهبوا وما آبوا.