وأقمنا على هذا العزم إلى آخر السنة، والأجفان مغضوضة على طيب السنة. وظل البرد الشديد مديد، والجلد واه ولهواه جبسد. وحد الشتاء في التشتيت حديد، والجبال قد اشتعلت رؤوسها شيبا، والثلوج قد زرت على أعناق أطوادها جيبا. والجو في نظم ونثر، والثرى من الثرات مثر. والهتون ناكب ناكت، والهتوف ساكن. والمزن مزين، والحزن حزين. وللسماء سماط، وللنشاص نشاط. وللسحاب حساب، وللبرق والرعد انتحاء وانتحاب. وللبرد من ثلجه برد، وللمطر في نهجه طرد. وللغيث عيث، وللوحل ريث.
وكانون قد أكن الربا، وشباط قد شب الشبا. والنار محبوبة مشبوبة، وحدود النكب مذروبة، وخدود الترب مضروبة. والسلطان مشغول بالصيد والقنص، ومنتهز في العمر للفرص. مبتز بالبزاة والصقور، حشاشات الوحوش والطيور. بكل جار جارج، وطائر طارح. يدنى أجل الحجل وحمام الحمام، كأنه غريم لها لاهي الغرام. وكل شهم ينقض انقضاض السهم، ويبط بطن البط بالحزم.
وأكثر الجلوس بدمشق في دار العدل، وأغزر لمنتجعيه در الفضل. وحكم وقضى، وأسخط بالحق وأرضى، ووقف وأمضى. وما منع بل أعطى، وأصاب وما أخطأ.
وجاد وأجاد، وأبدى وأعاد، وأوفد وافاد، وأحسن وزاد. وأغنى وأقنى، وأجدى وأسدى، وأولى وولى. وأجار وأجاز، وحاز وناز. وقرب العلماء، وأكرم الفضلاء، وفضل الكرماء. وتكلموا عنده في المسائل الشرعية، وظفروا من جوده بالوسائل المرعية. وما كان أحسن إلى الحق إصغاءه، وأسرع للباطل الفاءه. ولكل ذي فضل منه حظ، ولكل ذي حفظ منه حفظ. ولكل محروم منه رزق، ولكل مرزوق إلى حمده سبق. ولكل فهم عنده سوق، ولكل سهم عنده فوق. ولكل أدب لديه داب، ولكل عاتب عدم من جوده اعتاب، ولكل مكرمة عنده باب، ولكل دعوة عاف من إسعافه جواب.
ولكل مستجد اجداء، ولكل مستهد إهداء. ولكل سائل نائل، ولكل ماحل وابل. ولكل ظام ريّ، ولكل حائم ورد هنى. فما أسح مزنه؛ وما أصح وزنه؛ وما اسمح يده؛ وما أوضح جدده؛ وما أعلى جده!. وما أجد علاه. وما أجدى كفه؛ وما أكفى جداه؛ وما أكثر حياءه؛ وأغزر حياه؛ وآرج رياه؛ وأبلج محياه!.
وممن توفي في هذه السنة من الملوك؛ سلطان الروم قليج ارسلان بن مسعود ابن قليح ارسلان؛ وكانت وفاته يوم الخميس منتصف شعبان.
وكان له عشرة من النينين، فولى كلا منهم إقليما، وقصد به لمناد أمر ذلك الجانب تقويما. فقوى كل منهم في ثغره، واستقل بأمره. ودب في طبعه حب الاستيلاء والاستبداد، ومد عينه إلى ما في يد صاحبه من البلاد. وكان أكبر بنيه قطب الدين ملكله؛ قد استحكمت قواه؛ واستطال هواه؛ وهو حينئذ متولي سيواس؛ فأطاع في التملك على أبيه ملكه الوسواس. وسعى إلى أن أبعد من والده اختيار الدين حسن بن غفراس. وصور له إنه يريد أن يستولي على الملك، وينفرد بانتهاج المسلك وانتظام السلك.