فإنهم يصلون إلينا وافدين، ولزيارة الكنيسة قاصدين. وما يقتضي كرمنا أن نر الوفود، ولا نبلغ من يقصدنا المقصود.
ومرض ملك الانكتير مرضا ألهاه عما اشتهاه، ولم يبلغ في هذا الغرض إلى منتهاه. وركب البحر واقلع، وعجل في مفارقته وأسرع. وسلم الأمر إلى من يليه، وهو الكندهري ابن أخيه من أمه، وهو ابن أخت ملك افرنسيس من أبيه. وتبعه فرنج الجزائر، ولم يقف الأول منهم على الآخر.
عزم على الحج وصمم، وكتب إلى مصر واليمن بما عليه عزم. وأمر بأن يحمل له في المراكب كل ما يحتاج إليه من الأزواد والنفقات، والثياب والكسوات. فقيل له: لو كتبت إلى أمير المؤمنين وأعلمته بحجك وعرفته بنهجك. حتى لا يظن بك أمر أنت منه برئ، ويعلم أن قصدك في المضي مضيء. والوقت قد ضاق، ويبلغ الخبر الآفاق. ثم هذه البلاد إذا تركتها على ما بها من الشعث، لم تبرم مرر حبلها المنتكث. وهذه المعاقل التي في الثغور، حفظها من أهم الأمور. ولا يغتر بعقد الهدنة، فإن القوم على ترقب المكنة. والغدر دأبهم، ملء البغي أهابهم.
فما زال الجماعة بالسلطان حتى حلوا من العزم ما عقده، وأطفئوا من ثار جده فيه ما أوقده، فشرع في ترتيب قاعدة القدس في ولايته وعمارته، وتهذيب عمله ومعاملته.
وكان الوالي بالقدس حسام الدين سياروخ، وهو تركي يقتدى به في زهادته وحسن
سيرته الشيوخ. وكان فيه دين ولين، وحبله في الخبر متين. ولم يزل مستوفيا لحق الامانة، مستعفيا من الولاية لطلب الصيانة. فانصرع حميدا أثره، كريما مورده ومصدره.
وفوض السلطان ولاية القدس إلى عز الدين جرديك، وقال: تهديك في الأمور بغنيك عن أن نهديك. وإنما اعتمدنا عليك لاجتماع خلال الكفاية والشهامة والديانة فيك. فتول آخذا بالحزم في ثبتك وتأنيك، وترويك وتأتيك.
وولى علم الدين قيصر أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها؛ فخرج إليها وتولاها. وأمر بنقل الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين، وإعانة المقطعين. وكذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى أعمال عسقلان، ليعيد إليها الزراعة والعمران. وسأل الصوفية عن أحوالهم، وآذن سؤاله عنها بإجابة سؤلهم. فإنه كان وقف دار البطرك - مجاورة قمامة - لهم رباطا، وجعل لهم كل يوم فيه سماطا. وزاد في الوقوف، وحكمهم في الإنفاق بالمعروف.
وكان قد جعل كنيسة صندحنا - عند باب الأسباط - للفقهاء الشافعية مدرسة، وردها بنية على التقوى مؤسسة. وزاد في أوقافها، ووفر مواد تلادها وطرافها. وأمر بأن تجعل الكنيسة - المجاورة لدار الاسبتار بقرب قمامة بيمارستانا للمرضى. وأتخذ فيها بيوتا فيها حاجات أصحاب الأمراض على اختلافها تقضي. ووقف مواضع عليها، وسير أدوية وعقاقير عزيزة الوجود إليها. وفوض القضاء والنظر في هذه الوقوف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم. وعول منه على أمين كريم.