ثأرها، وقصدت الفرنج من وراء البحر ديارها. ولا شك أنهم يستعدون في هذه المدة، ويستمدون ما يستطيعونه من القوة والعدة، ويستجدون عزمة العودة.
وقد شرع الخادم في تحصين الثغور، وإمرار الأمور. وإبرام معاقد المعاقل، وأحكام قواعد الحق بتعقية آثار الباطل. وإتمام أسوار القدس وخندقه حتى يبقى على الدهر أمنا من طروق العدو وطوارقه. وإعادة الأعمال والأحوال إلى عادة عمارتها، وحلية نضارتها، وإجمام العساكر وإراحتها، ليوم تعبها الذي هو عين راحتها.
ولقد كان الخادم للسلم منكرها، ولا يرى أن يكون كشيمة ملوك العصر عن الغزو
مترفها. ولكنه أجمع من عنده من الأمراء وذوي الآراء على أن المصلحة في للصالحة راجحة، وإن صفقة الكفر فيها خاسرة وصفقة الإسلام رابحة.
وإن في إطفاء هذه الجمرة وقد وقدت سكونا عاما، وأمنا تاما، وتفريقا لجمع الكفار لشمل النصر عليهم ضاما. فهي سلم أنكى من الحرب فيهم، وإنها تقصيهم من هذه الديار بل تنفيهم، وإلى متى تجتمع هذه الأعداد الهائلة لهؤلاء الأعداء، وتتفق هذه الإمداد المتواصلة من أهل النار في الماء. وما صح لهم هذا الجمع على التكسير إلا في خمس سنين، وما وافى إليهم مددهم من ألوفه سوى مئين. وكل ما كان لهم من أموالهم من بلادهم نقلوه وأنفقوه، وأيقنوا أن مرامهم صعب وتحققوه. فمتى انفضوا انفضوا، وقد آن أن يرفُضوا ويرفضّوا، وإلى أن يتفق مثل هذه الجموع، ويعزم ذاهبهم على الرجوع؛ يكون الإسلام قد استظهر بقوته، واستكثر من نجدته ومن جدته. فرأى موافقة الإجماع، وقبل مناصحة الأشياع. وتفرق جمع الكفر وباخ جمره، وأمن نكره ومكره، وانشرح صدر الإسلام وتضوع نشره، وتوضح بسنى النصر فجره.
عاد السلطان إلى القدس وعادت عادة سعادته، واشتغل بإتمام السور والخندق وتكميل عمارته، وفسح للفرنج كافة في زيارة قمامة. فجاءوا ووجدوا الأمن والسلامة. وزاروا ورازوا، ولما عجزوا أن يحتازوا سألوا أن يجتازوا. ففسح لفريق من بعد فريق، وتوافوا في طريق وراء طريق، وقالوا: إنما كنا نقاتل على هذا الذي وجدناه مع الصلح، وما زلنا سائرين في ليل القصد حتى وصلنا إلى الصبح.
وكان ملك الانكتير راسل السلطان وسأل منع الفرنج من الزيارة إلا لمن وصل معه كتابه أو رسوله، ورغب في أن يجاب سؤاله في ذلك ويصاب سوله. فقيل:
مقصوده أنهم يرجعون إلى بلادهم على حسرة الزيارة، فيبقون على الاستنفار والاستثارة. ومن زار برد قلبه، وتنفس كربه، ولم يبق له من مشقة العود أرب، ولم يتصل له بهذه الديار سبب، فكان الأمر كما حسب، فاعتذر إليه في الجواب الذي كتب. وقيل له: أنت أولى بمنعهم، وردهم بردعهم.