وقتل كل من حوته وسبى، وناب المشركين بما بنى مجده ومضى حده فيه وما نبا. وغنم من أموالها المسلمون ما خف وثقل، وأسر من وجد فيها وقتل. ونهب من آلات الحصر ما خرج عن الحصر، وابتذل كل ما صين من الغلال والعدد والمال الدثر للذخر.
وطلب أهل القلعة الأمان من القتل خاصة دون الأسر، وشرطوا أنهم لا يمكنون من الدخول إليهم من جاءهم للنجدة من البحر. وأخرجوا على سبيل الرهينة مائة رجل من محتشميهم، وكنودهم ومقدميهم. مثل البطرك الكبير والقسطلان والمرشان؛ ومن يجري مجراهم من الفرسان. فلما أصبحوا جاءهم ملكهم في البحر فغدروا، وامتنعوا بعج انقيادهم للعجز حين قدروا. وخيم العدو هناك في جموعه، وندب إلى عسكره من يأمره برجوعه. ووافت في البر جحافله حافلة، وتواردت في الإسراع إلى الصريخ ظلمانا جافلة. فأجرى الخادم على الرهائن حكم الاسترقاق، وسيرهم إلى دمشق في أقياد الوثاق، ورجع إلى القوم فهزمهم وردهم إلى عكا، بعد ما نكى فيهم وأضحك من دمائهم البيض وأيكى. وعاد إلى العدو ونزل عليه، وكدر الموارد لديه حين زحف إليه. واجتمعت من أهل الإسلام العساكر. واتسعت على المشركين في المضايقة الدوائر. ورجا المؤمن وخاب الكافر، وجالت بأوجالها الضمائر لما جالت عليهم الضوامر. وعاينوا العذاب الواقع، وعدموا الدافع، وشاهدوا المصارع. فما زالت رسلهم تتردد بالضراعة؛ وبذل الطاعة؛ والنزول عن الاشتطاط، والدخول تحت الاشتراط؛ والغبطة بما هزله الإسلام عطف الاغتباط؛ واحتوى عليه بيد الاحتياط.
وكانوا لا يجابون إلا بالآباء، ولا تلقى رسلهم إلا بتصميم عزم اللقاء. حتى حضر
أكابر الدولة وأمراؤها، وأولياء الطاعة وألباؤها. وأشاروا بعقد الهدنة، والانتهاز فيها لفرصة المكنة. واستقرت المهانة على ما اعز للإسلام الأنوف وأذل من الكفر الرقاب، ورجح وانجح من أهل الإيمان الآراء والآراب. بعد أن نزلوا عن البلاد والمعاقل التي تملكوها، وبعدوا الطرق التي سلكوها، وسألوا الأمان على الأماني التي استدركوها وما أدركوها، وسلموا عسقلان وغزة والداروم ويبنى ولد وتل الصافية، وغير ذلك من الأعمال والأماكن الوافرة الوافية.
واقتنعوا بيافا وصور، واستبدلوا من تطاولهم وقدرتهم العجز والقصور. ورأوا عزهم في ذلهم، وصونهم في بذلهم، وسلامتهم في سلمهم، وغناهم في عدمهم، ولانوا بعد الاشتداد. ودانوا للانقياد. وهانوا بعد الاعتزاز، وهابوا بعد الاغترار، وأقروا بعد الإنكار لتعود جفونهم إلى الغرار؛ وأمورهم إلى القرار. وخلوا ديارهم وأخلوها، وما سألوا عن حب الأوطان والأوطار وسلوها. ومدة الهدنة التي اخذوا بها اليد وأعطوا اليمين؛ ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها أول أيلول يوم الثلاثاء الحادي والعشرين، من شعبان سنة ثمان وثمانين. ووضعت لحرب أوزارها ورحضت بماء السلم أوضارها، وأخذت من أهل النار