العساكر، طالبا شغل العدو الكافر، الحاضر الحاصر. وسير من كشف هل للعدو كمين، أو كيد دفين. ثم وقفت العساكر عنه ومر إلى تل الفضول بالقرب، وشاهد المجانيق وكيفية رفعها والنصب، ونكايتها في الضر والضرب. وعرف أماكن القتال، ومكامن الرجال، وكلما شاهد الفرنج عسكرنا قد أطل وأظل، ذل جمعهم وكل، وترك الزحف وانفل. وإذا عاد عادوا وعدوا، وأناروا في الحرب وأسدوا.
كان لصوصنا في الليل استلبوا طفلا من يد أمه، وفطموه رضيعا له ثلاثة اشهر في غير فطمه، واستحلوا بحكم الجهاد في جنح الظلام جناح ظلمه. وفجعوها بواحدها وساعدها، وكدروا صفو مواردها. وقطعوا عنها كبدها، وأسعروا عليها جذوة كمدها، وحرموه در لبنها فدر دمعها. وأبعدوه عن مناغاتها ومناجاتها، فوقر عن كل حديث سمعها.
فخرجت والهمة، وللحياة كارهة، وللخد خادشة، وللوجه خامشة. معواة مولولة،
مذهلة مشتعلة. قد شدهت ودهشت، وتلهت واستوحشت. قد سلب عقلها، مذ سلب طفلها. وغاب ذهنها، مذ غاب ابنها. وتكرر بالحنين والأنين ترجيعها، وتردد للقلوب مما فجأها، وفجعها من الكروب تفجيعها. وهي نائحة في كل ناحية، نادبة في كل ناد، نادية لكل فؤاد، عادية في كل واد.
فلم يشعر السلطان إلا بامرأة بالباب واقفة، وبالنحيب هاتفة. وللدموع حادرة بتصاعد أنفاسها، ومن الخلق مستوحشة لذهاب استئناسها. قارضة صدرها بتقطيعها، ضارعة لفقد رضيعها، معولة على اطفل معولة على اللطف، متنكرة من النكر متعرفة إلى العرف.
فأحضرها السلطان وهي باكية، ونار اكتئابها ذاكية. تتحدر عبراتها، وتتصعد زفراتها، وتتلهب حسراتها. تبكي ببكائها، وتشتكي من دائها، وتنشد ضالتها، وتطلب مهجتها، وتسأل عن حشاشتها، وتشتعل نار قلبها على فراشتها.
فلما شاهدها السلطان حربية حزينة، مسكينة مستكينة، متجننة متحننة مولعة مولهة، موجعة متوهة. سمع شكواها وفهمها، ورثى لبلواها ورحمها ورق بلطفه للطفل الرقيق، وسلك بفضله طريق التوفيق، وطلب الرضيع، فقيل له إنه بيع وأضيع. فإن آخذيه باعوه بثمن بخس، ولم يعرضوه في سوق بز، ولا سوق نخس. فما زال يبعث ويبحث عنه؛ وساوم باذله كيف لم يصنه؛ حتى جيء به في قماطه، وقد كاد يلف في عباءة اعتباطه.
فلما أبصرت واحدها؛ ضمت عليه ساعدها. ودعت وعدت، وشدت يدها به وشدت. فأعادها وبنواله أفادها، وبرد حرها برد روحها، (وأسا ما أساء الأسى) من جروحها وقروحها، وروحها بروحها، وفرع دحها، واغناها بغنائها، للشكر عن نوحها. وظهر